بعد انقضاء المعركة التركية بـ«عفرين» السورية، أصبحت «سنجار»، تلك المدينة الاستراتيجية الواقعة شمالي غرب العراق بالقرب من الحدود السورية، هي الوجهة التالية لأنقرة في حربها ضد الأكراد.
فهي منطقة واقعة تحت قبضة «العدو اللدود» لأنقرة، إنه «حزب العمال الكردستاني (بي كاي كاي)»، وهي تبعد حوالي 100 كلم عن الحدود التركية، وحوالي 80 كلم من معسكر «بعشيقة» الذي توجد فيه قوات تركية محدودة شمال الموصل؛ مما يجعلها تشكل خطرًا على الأمن القومي التركي، ويبدو أن الموقف الأمريكي والعراقي، بل الدولي مشجع لتركيا نحو اتخاذ موقف يضمن لها دحر الأكراد من هذه المنطقة، ويضمن لهذه الأطراف تجحيم النفوذ الإيراني التي بسطت نفوذها فيها لتحقيق حلم الهلال الشيعي.
أنقرة تضع «سنجار» في قائمة أهدافها القادمة
في 19 من مارس (آذار) الحالي، وبعد إعلان تركيا سيطرتها الكاملة على منطقة عفرين السورية، أعلن الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» أنهم مستعدون لتنفيذ عملية عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني (PKK) في منطقة سنجار الواقعة شمالي العراق، في حال لم تقم الحكومة المركزية العراقية بذلك، وقال «أردوغان»: «إذا لزم الأمر، فسنضع مخيمات الإرهابيين في شمال العراق تحت سيطرتنا بشكل مستمر، ونبهنا الإدارة المركزية إلى أن هناك مساعي لتحويل سنجار إلى قنديل جديد، وطلبنا منهم التدخل في هذه المنطقة، ونحن جاهزون للتدخل في حال لم يقوموا هم بذلك».
وتصر أنقرة على عدم السماح بإقامة «جبال قنديل ثانية»، كما تسميها، في جبل سنجار الاستراتيجي القريب من تلعفر العراقية، وتظهر هذه التصريحات أن سنجار باتت لها الأولوية في قائمة الأهداف التركية القادمة، وقد دفعت جدية الموقف التركي قيادة حزب العمال الكردستاني في 23 مارس الحالي للإعلان عن سحب قواتها من سنجار «بعد أن أدت مهمتها على مدى السنين الأربع الفائتة» كما قالت، لكن هذا الانسحاب لم يطمئن تركيا كثيرًا؛ حيث نقلت وسائل إعلام تركية عن مسؤولين أن الإعلان عن الانسحاب مجرد مناورة أو خدعة، وأن الحزب سيبقى في المنطقة تحت مسمى «قوات مقاومة شنكال» (الاسم الكردي لسنجار).
وتعد سنجار منطقة استراتيجية قريبة من الحدود العراقية السورية، يسكنها وفق تعداد 2014 ما يقارب 90 ألفًا معظمهم من الإيزيديين، إضافة لأقليات عربية وتركمانية وغيرها، وقد تمكنت قوات البشمركة إلى جانب حزب العمال الكردستاني من دحر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي سيطر علي المنطقة في الثالث من أغسطس (آب) 2015، حيث تمكن من طرده في 19 ديسمبر (كانون الأول) من نفس العام، بدعم من طيران التحالف الدولي.
لكن القوات الحكومية العراقية سيطرت على المدينة في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، ردًا على رفض استفتاء كردستان العراق الذي أجرته البشمركة؛ وهو ما أدى إلى انسحاب البشمركة من سنجار، لكن حزب العمال الكردستاني احتفظ بنحو 2000 من مقاتليه في قرى سنجار، وهي المناطق التي تطالب أنقرة بخروجه أو إخراجه منها؛ إذ يشتعل الصراع بين الحزب وبين تركيا منذ عقود، وهو مصنف من قبل أنقرة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة كـ«تنظيم إرهابي».
هل تتخلى أمريكا والحكومة العراقية عن أكراد سنجار؟
أكد وزير الدفاع الأمريكي «جيمس ماتيس» قبل أيام على أن وجود حزب العمال الكردستاني في قضاء سنجار العراقي يشكل تهديدًا لتركيا، وقال «ماتيس» في تصريحات صحافية: إن «هناك تهديدًا لـ(بي كاي كاي) ضد تركيا في سنجار، الواقع مباشرة في الطرف الآخر من الحدود بشمال العراق، وكما تعلمون فإن (بي كاي كاي) تصنّف ضمن القوائم الإرهابية لدى الولايات المتحدة، لقد قتلوا العديد من الأتراك الأبرياء، ونريد رؤية انسحاب (بي كاي كاي) من سنجار».
ويقرأ أستاذ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية في الجامعة اللبنانية «خالد العزي» في الموقف الأمريكي من الوضع تجاه سنجار، أن تركيا تعلم أن ضرب المناطق الكردية لن يكون له صدى نهائيًا لدى الأمريكيين؛ بسبب سيطرة الحرس الثوري الإيراني عليها، كما أن الروس وقعوا اتفاقًا مع تركيا بمقايضة الأكراد مقابل الغوطة، ويوضح بالقول: «أمريكا لن تغضب للأكراد؛ لكون حزب العمال تستخدمه روسيا وإيران والنظام السوري في مواجهة تركيا الصديق القديم لواشنطن، بالرغم من عدم إيجابية العلاقة حاليًا بينهم».
ويوضح «العزي» أن حزب العمال الكردستاني عبء على الكرد، وهم خاضعون لمليشيا الحشد الشعبي، ويأتمرون بإمرة قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري «قاسم سليماني»، ولذلك – فبحسبه – «تعرف الحكومة العراقية أهمية طلب تركيا، وسوف تغض النظر عن ضربات تركيا التي سوف تستهدف هذه المجموعات بالطائرات والصواريخ»، لكنه يتوقع أن لا يدخل «أردوغان» مباشرة إلى سنجار؛ لأنه يعلم بأن الحزب سيقوم بإخلاء سنجار (شنكال) متوجهًا نحو سوريا، وهذا يجعل من الحدود السورية مجددًا مصدر تهديد لتركيا.
ويتابع القول لـ«ساسة بوست»: «سوف تسيطر تركيا على منبج والباب، وتصل الى أطراف حلب واللاذقية، وكذلك سيكون هناك ردة فعل عربية في دير الزُّور والرقة بوجه الأكراد؛ مما يعني بأن الأكراد سوف يعودون إلى مناطقهم الطبيعية، بالإضافة إلى انحسار حزب العمال الكردستاني، وعودته إلى جبال قنديل معاقلهم القديمة».
وفيما يتعلق بموقف الحكومة العراقية، أكد رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، أن القوات المسلحة العراقية ستمنع المقاتلين الأكراد المتمركزين في شمال العراق من شن هجمات عبر الحدود على تركيا، ويرى «العزي» أنها لن تكون منزعجة من ضرب حزب العمال الكردستاني في ظل الأزمة الأمريكية الإيرانية، وتابع القول: «الأكراد لن يستطيعوا المواجهة، لقد تخلي الجميع عنهم، حيث باتوا عبئًا على الجميع، وحتى على الشعب الكردي، وهذا التراجع سيكون موازيًا لانحسار وتراجع (داعش) السريع، وسيكون الردع التركي نهاية الحلم لدولة شمال سوريا، بعد أن كان بإمكانهم، على فرض هويتهم الكردية: الثقافية، والسياسية، والاجتماعية، واللغوية، إقامة حكم ذاتي؛ ليتراجع هذا التصور إلى أدنى الحدود».
تحجيم النفوذ الإيراني
يوجد تنافس له أسبابه المختلفة بين كلٍّ من تركيا وإيران وحزب العمال الكردستاني حول مدينة سنجار الاستراتيجية؛ فبينما تشكل المنطقة بالنسبة للأكراد مركز تحرك استراتيجي يمكّنهم من الوصول إلى الأراضي التركية بسهولة والاتصال مع أكراد سوريا، يعود اهتمام إيران ببناء قوة موالية لها هناك إلى سعيها الدؤوب لتحقيق حلم «الهلال الشيعي»، حيث ستمكنها تلك المنطقة – من الناحية الاستراتيجية – من الوصول إلى البحر المتوسط، ولذلك يتوقع المراقبون أنه في حال شن الجيش التركي عملية عسكرية في سنجار أن تتفاقم العلاقات بين أنقرة وطهران.
ويوضح لنا الصحافي السوري «يمان دابقي» أن معركة سنجار ناجمة عن اتفاق تركي أمريكي متوافق مع اللاعبين الدوليين على تحجيم إيران في المنطقة، فالتفاهمات أفضت إلى إطلاق يد تركيا في شمال سوريا والعراق، كبداية تمهيدية لقطع أذرع إيران في المنطقة، إضافة إلى فصل العلاقة العضوية لها مع روسيا، بحسبه.
ويرى «دابقي» أن دخول الأتراك وتوغلهم في شمال العراق بمثابة رسالة من المجتمع الدولي لإيران، ويتابع القول لـ«ساسة بوست»: «هناك تفاهمات تجري مع التصعيد الغربي الأخير بطرد الدبلوماسيين الروس من 14 دولة، فذلك مؤشر لتأليب الوضع العام ضد إيران وروسيا معًا؛ وذلك لكون الهدف القريب هو تحجيم إيران بالمنطقة عن طريق فصل العلاقة العضوية مع روسيا».
ويعتقد «دابقي» أن يتم فتح صفحة الجنوب السوري لإخراج الميليشيات الإيرانية منها، وقد تشهد عدة سيناريوات، كانسحاب طوعي للنظام بأمر من الروس، وبِناءً عليه سيتم التغاضي الدولي عن التوسع التركي في شمال العراق؛ بغية تأمين أنقرة لحدودها وإضعاف إيران، ويعتقد «دابقي» أنه في حال ارتفعت وتيرة الغرب ضد إيران، وتمكن الغرب من فصل العلاقة العضوية مع روسيا، فمن الوراد أن نكون بصدد إخراج دولي لإيران من المعادلة، وستكون هي الخاسر الأكبر، ثم روسيا، وسيكون اللاعب التركي هو الرابح في الوقت الحالي بعد خساراته المتراكمة سابقًا.
سيناريوهات الوضع في سنجار
تؤكد أنقرة أن أمنها مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتمكنها من إخراج الأكراد من منبج ومناطق شرق الفرات بسوريا، وسنجار وجبال قنديل في العراق، لكن بالرغم من الطمأنينة التركية المحدودة تجاه الوضع في سنجار بسبب موقف حكومتيْ بغداد وأربيل من رفض وجود العمال الكردستاني فيها، والموقف الأمريكي سابق الذكر، إلا أن تهديدها بالخيار العسكري يظل محل خلاف بين المحليين.
يقول الباحث في الشأن التركي «سعيد الحاج»: إنه «ليس مرجحًا أن تقوم تركيا بعملية عسكرية برية موسعة في سنجار على غرار عملية غصن الزيتون في عفرين؛ إذ ثمة اختلافات جوهرية بين المنطقتين والبلدين، فالعراق دولة مستقرة نسبيًا، وحكومته تسيطر على الأوضاع فيه إلى حد بعيد».
ويضيف : «تبعد سنجار حوالي 100 كلم عن الحدود التركية، وحوالي 80 كم من معسكر بعشيقة الذي توجد فيه قوات تركية محدودة شمال الموصل، ويعني ذلك أن أية عملية عسكرية برية ستكون بالغة التعقيد وتحتاج للتنسيق والتعاون مع حكومتيْ أربيل وبغداد، حيث يفترض أن تقطع تلك القوات مساحات واسعة بأراضي الطرفين، خصوصًا كردستان العراق».
ويتابع القول في تحليله المعنون بـ«المقاربة التركية بشأن سنجار في العراق»: «ليس مرجحًا أن تقوم تركيا بعملية عسكرية تقليدية وواسعة في سنجار، خصوصًا أن عدم موافقة بغداد عليها سيحرمها – إلى حد كبير – من المسوغات والتبريرات السياسية والقانونية التي حظيت بها في عمليتيْ (درع الفرات) و(غصن الزيتون)، لكن أنقرة قد تكتفي بعملية محدودة، عمادها الرئيس القصف الجوي، كما تفعل مع معسكرات الكردستاني في جبال قنديل».
لكن هناك رأيًا آخر يرى أن تركيا قد تدخل معركة قوية في سنجار ضد الأكراد؛ إذ يقول العميد المتقاعد «نعيم بابور»: «طبعًا يمكنه (أردوغان)، بل عليه فعل ذلك برأيي. تستند مكافحة الإرهاب إلى تجفيف موارده وقطع الدعم اللوجستي عنه. لنقل إن تركيا حاليًّا لا يمكنها قطع الدعم الأمريكي والغربي، وحتى الروسي عن حزب العمال. إذا لم تستطع قطع الدعم فعليها تجفيف موارد الإرهاب»، ويوضح لصحيفة «ملليت» التركية: «يمكنها (تركيا) الاستفادة من الوضع الحالي لعقد اتفاق مع الحكومة العراقية وإيران والقيام بعملية ضد الحزب في سنجار، ويمكنها أيضًا تنفيذ عملية مشتركة مع إيران ضد معاقل الحزب في قنديل، الأمن القومي والمصالح القومية للبلدان الثلاثة تلتقي في هذه النقطة؛ لأن حزب العمال الكردستاني يشكل تهديدًا لها».
المصدر: ساسة بوست