القصة القصيرة … نبذة تاريخية
ترجمة: هاشم كاطع لازم – أستاذ مساعد – كلية شط العرب الجامعة – البصرة
بقلم: وليم بويد William Boyd
أنطلقت القصة القصيرة في القرن التاسع عشر أثر حملة مفاجئة كاسحة صاحبت طبع المجلات وبلغت نموذجها المتكامل بصدور قصص أنطون تشيخوف Anton Chekhov لتصبح لاحقا واحدة من الأشكال الأدبية البارزة في القرن العشرين.
وقبل الشروع بتاريخ القصة القصيرة دعونا نتطرق الى مقدمة ذات صلة بالموضوع ، ففي بالي صورة ذهنية لمجموعة من سكان الكهوف (النيانديرتال) Neanderthals (أو فرقة مشابهة لهم من كائنات تشبه البشر) تجثم حول نار متقدة عند مدخل كهف قبيل حلول المساء. يقول أحدهم على الفور:(لن تصدقوا ماحصل لي هذا اليوم!). وقبل أن يشرع هذا الراوي بسرد حكايته يلقي المتجمعون العظام المقضومة جانبا ويسود السكون في المكان حيث يجلس الأطفال ويصغي سائر أفراد القبيلة الى الراوي بأنتباه كبير. هذا الحكواتي أضافة الى النادرة والأستغراق في الذكريات الأثيرة والدعابة المطولة والتذكر الحاد تمثل في الواقع منشأ القصص القصيرة التي نقرأها ونكتبها في وقتنا الحاضر. ويمكن القول أن رواية القصة بشكل أو بأخر تتصل أتصالا وثيقا بخطابنا الأنساني الذي يهدف بين أمور أخرى الى تدوين تواريخنا الشخصية وكذلك تخيل الأحتمالات التي تاسرنا وترعبنا وتجتذبنا وتؤنبنا وتدغدغنا ، هذا فضلا عن مجمل العواطف التي تحملها قصة رائعة.
أن ماأوردته آنفا يتسم بالخيال كما يصعب أثباته. مع ذلك أشعر أن مثل هذا التمهيد لابد أن يساهم في ل أيضاح ماتتمتع به القصة القصيرة من قدرة عجيبة. وهذا اللون الأدبي يبدو أكثر طبيعية لنا قياسا بالأشكال الأطول منه فالحكاية أو النادرة التي تستغرق ساعات عديدة تؤدي الى انصراف المستمعين لها بعد فترة وجيزة. والقصص التي يسردها بعضنا للبعض الآخر تتصف بقصرها وبشكلها المحدد. ولننظر الى مايحصل لدى سرد اية حكاية: فراوي الحكاية وأن لم يمتلك خبرة تذكر في سرد حكايته يجد نفسه / نفسها مكره على اختيار بعض التفاصيل وحذف أخرى والتركيز على بعض الأحداث وتجاهل الأحداث التي لاتتصل بالموضوع أو التي تستغرق وقتا طويلا. فضلا عن ذلك يمكن أن يتجاهل بعض الشخصيات الرئيسية أو يشرع في وصفها أو يتباطأ في ذلك بهدف الوصول الى خاتمة لحكايته بشكل من الأشكال ، وهذا يعني أن عملية تحرير شاملة تحصل في عملية السرد تشمل الأختيار والأيضاح وتعزيز الأستنباط وهذا مايجعل من كذبة مقنعة تصبح قصة قصيرة متكاملة. ويبدو أن القصة المحكمة تجيب عن شيء عميق للغاية في طبيعتنا وكأن شيئا متميزا قد تم أستحداثه أو أن شيئا جوهريا من خبرتنا الحياتية قد تم تقديره أستقرائيا أو أن أحساسا مؤقتا قد يتولد ليتناسب مع رحلتنا المشتركة المضطربة المتجهة صوب القبر ومن ثم النسيان.
وأذا ثبت صحة هذا الأمر تماما ترى لماذا أستغرقت القصة القصيرة بصفتها شكلا أدبيا كل هذا الوقت كي تشهد ماوصلت اليه من تطور؟ أن التاريخ الثقافي للقصة القصيرة المطبوعة لايتجاوز تاريخ الأفلام السينمائية الا ببضعة عقود من السنين. والجواب على ذلك نجده في العمليات الصناعية والديموغرافية فلقد وجدت القصة دوما بصفة تقليد شفاهي أتخذ منحى بعيدا عن الجوانب الرسمية ـ لكن بعد أن تمكنت الطبقة الوسطى في القرن التاسع عشر في الغرب من تعلم القراءة والكتابة على نحو واسع وبعد أستحداث سوق لنشر المجلات والمطبوعات العامة لخدمة رغبات القراء وتطلعاتهم بدأت بواكير القصة بالظهور أما قبل ذلك فلم يكن هناك أي منتدى طباعة حقيقي للون المعروف بالقصة القصيرة الذي تتراوح صفحاته بين 5 الى 50 صفحة. وهذه الوسيلة الجديدة كشفت للكتاب قدرتهم على كتابة مثل هذا اللون الأدبي. من جانبهم أبدى القراء رغباتهم بقراءة القصة القصيرة وأكتشف الكتاب فجأة أن لونا أدبيا جديدا قدغدا طوع بنانهم. ومايدلل على ماأقوله هنا هو الطريقة التي أنطلقت بها القصة القصيرة بشكل مضطرد لتبلغ نضجها الكامل في ما بعد. ولم تتعثر القصة في خطواتها الأولى ولم تمر بقرون بطيئة أثناء تطورها. تجدر الأشارة هنا ألى أن الفترة الممتدة من مستهل القرن التاسع عشر الى منتصفه شهدت كتاب قصة مرموقين مثل هوثورن Hawthorne وبو Poe وتورجينيف Turgeniev الذين تمكنوا من البداية من كتابة قصص قصيرة كلاسيكية خالدة الأمر الذي يدلل على أن القابلية على الكتابة كانت كامنة داخل الخيال البشري. وقد بلغت القصة القصيرة أوج نضوجها في منتصف القرن التاسع عشر وعند نهايته على يد أنطون تشيخوف.
هنا نطرح السؤال الآتي: من كتب القصة القصيرة الحقيقية الأولى ونشرها؟ في الواقع وجدت القصص والحكايات القصيرة لقرون عديدة بشكل أو آخر: على سبيل المثل لاالحصر شهرزاد وديكاميرون Decameron لبوكاشيو Boccassio وحكايات كانتربري Canterbury tales وكذلك ماورد في الكتاب المقدس أضافة الى الحبكات الثانوية في المسرحيات والروايات والمقطوعات الهجائية والكراسات والحكايات الطويلة المعروفة ب (الساغة) 1 Sagas والقصائد القصصية والمقالات والصحف. لكن ماالنص الأدبي الأول الذي يمكن أن نؤشر عليه ونصنفه ونوسمه بثقة: ( هذه قصة قصيرة حديثة)؟ لقد أشار باحثون الى ان شرف ذلك يعود الى قصة (وولتر سكوت) Walter Scott الموسومة (الراعيان) The Two Drovers التي نشرت ضمن العمل الموسوم (أحداث كانونغيت التاريخية) Chronicles of Canongate في عام 1827، وهذه بداية مناسبة لأن القصة القصيرة تطورت سريعا بعد هذه القصة لتأخذ صفة دولية على يد سكوت ، فتأثيره الكبير لم يلهم جورج أليوت George Eliot وتوماس هاردي Thomas Hardy في بريطانيا فحسب ، أنما أمتد الى بلزاك في فرنسا وبوشكين Pushkin وتورجينيف Turgeniev في روسيا وفينيمور كوبر Fenimore Cooper وهوثورن في أمريكا. وأذا أخذنا في الحسبان ماتركه أولئك الكتاب من أثرهام على كل من فلوبير Flaubert وموباسان Mauppassant وتشيخوف وبو وميلفيل Melville فأنه يمكننا حينئذ أن نتتبع المنابع الحقيقية لهذا الشكل الأدبي. والمشكلة الوحيدة في هذا الشأن أن القصة القصيرة في بريطانيا بعد سكوت لم تترعرع هناك فى منتصف القرن التاسع عشر مثلما تسيدت الرواية على سبيل المثال. أما الكتاب في فرنسا وروسيا وأمريكا فقد تركوا بصماتهم الواضحة في تلك الفترة ، ولم تزدهر القصة القصيرة الحديثة في بريطانيا مرة أخرى ألا على يد روبرت لويس ستيفنسن Robert Louis Stevensen في الثمانينيات من القرن التاسع عشر ليتواصل التطور على ايدي الكتاب أج جي ويلز H. G. Wells وبينيت Bennett وجيمس وكبلنغ . Kipling
تأسيسا على ذلك وفي ضوء الكثير من المعطيات فأن البدايات الحقيقية للقصة القصيرة الحديثة قد نشأت في أمريكا حيث طبعت مجموعة ناثانيل هوثورن Nathaniel Hawthorne الموسومة (حكايات مكررة) Twice-Told Tales في عام 1837 والتي يمكن أعتبارها الأنطلاقة الأساسية للقصة القصيرة. وحين قرأ بو ماكتبه هوثورن أجرى أول تحليل حقيقي للأختلاف بين كل من القصة القصيرة والرواية حيث عرّف القصة القصيرة بكل بساطة بأنها (حكاية يمكن قراءتها في جلسة واحدة). ولايبدو مثل هذا التعريف هينا في معناه السطحي حيث أن بو يحاول أن يسلط الضوء على التأثير المتفرد والفضولي للقصة القصيرة وهو ماشعر به بقوة بفعل طبيعة قراءة القصة بمجملها في جلسة واحدة. ويواصل بو (على الكاتب عدم أستخدام مفردة مكتوبة في القصة بأكملها لاترتبط بالخطة الوحيدة المعدة سلفا سواء حصل ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر. أن تبني مثل هذه الوسيلة مصحوبة بمثل هذا الأهتمام والمهارة سوف يفضي الى رسم صورة مفصلة تترك في ذهن من يتأملها شعورا بالرضا التام).
ولربما يكون بو تخطيطيا وتوجيهيا ، اي أنه يرغب في (خطة معدة سلفا) لأنها تمثل الصيغة المهيمنة للقصة القصيرة لكنه صارم جدا بخصوص التأثير الذي يمكن أن تحققه القصة القصيرة وهو (الشعور بالرضا التام). ومن الممكن أن تكون القصة القصيرة أكبر وأكثر ثراء وتعلقا بالذاكرة من ما تبدو عليه من قصر وما يترتب على ذلك من قدرة على الطرح. وأذا قرأنا قصص بو ومن بينها القصص التي تتناول الشرطة السرية مثل (سقوط منزل آشر) The Fall of the House of Usher أدركنا أنه يسعى لتطبيق ماكان يؤمن به ويدعو أليه. وأنا هنا أود أن أتوسع قليلا في تعريف بو وأضعه بالصيغة الآتية: القصة القصيرة الحقيقية والمتكاملة تحقق تاثيرا شاملا يتعذر أختصاره أو تحجيمه. وفي هذا المجال على نحو التحديد يحصل التميز الواضح بين القصة القصيرة والرواية حيث يختلف التأثير الناجم عن القصة القصيرة المحكمة عن تأثير الرواية المتميزة. وللقصص الحديثة البارزة صفات منها الغموض والأثراء المضلل حولها أي تعقيد الفكرة اللاحقة التي لايمكن التحكم بها أو تحليلها. ومن الغرابة أن نلاحظ في هذا الخصوص أن الأثر الكلي دون شك أعظم بكثير من مجموع مكونات القصة المختلفة. ولربما سعى بو من دون قصد الى تحقيق ذلك في بعض الأحيان غير أن الكاتب الذي سار على خطى بو وأتصفت قصصه القصيرة بمثل هذه الوظيفة هو هيرمان ميلفل.
لقد كره ميلفل كتابة القصص وقال أنه كتبها للحصول على المال فحسب. غير أن القصة الحديثة تكاملت على نحو مفاجيء تماما في العديد من قصصه مثل (بينيتو سيرينو) Benito Cereno و (بارتلبي الكاتب) Bartleby the Scrivener والتي نشرت ضمن (حكايات بيازا) Piazza Tales في عام 1856. وفي قصص ميلفل يمكن للقاريء أن يطالع الأمثلة الأولى للقدرات غير المألوفة التي ميزت القصة القصيرة. وأذا قيض للقاريء أن يستوعب وكذلك يستمتع بما يطرحه ميلفل في (بينيتو سيرينو) فأنه سوف يفهم ويستمتع بقصص مثل (دكتور جيكل والسيد هايد) Dr. Jekyll and Mr.Hyde لستيفنسن Stevensen و(المساهم السري) The Secret Sharer لكونراد Conrad و(بيت ذو شرفة دنيا) House with the Mezzanine لتشيخوف و (تلال مثل فيلة بيضاء) Hills Like White Elephants لهيمنغوي و (المقدمة) Prelude لمانسفيلد و قصة (الكاتدرائية) لكارفر Carver و (ربيع في فيالتا) Spring at Fialta لنابوكوف Nabokov و (أطلق النار أنت ميت) Bang Bang You Are Dead لسبارك Spark وغيرها الكثير. ومن غير الممكن تلخيص أو اعادة صياغة التاثير الشامل لمثل تلك القصص. لقد تمكن ميلفل من وضع المعايير المتعلقة بمتطلبات القصة القصيرة ومهد لوضع المعايير التي يتم بموجبها الحكم على كتاب القصة القصيرة البارزين الآخرين.
وقد باشر تورجينيف أيضا بنشر قصصه القصيرة في الخمسينيات من القرن التاسع عشر وهو ربما ينافس ميلفل في ريادة الشكل الحديث للقصة القصيرة ، غير ان اسهام تورجينيف البارز يتمثل في شروعه في ماأنتهى اليه تشيخوف. ترى لماذا يوصف أنطون تشيخوف (1860 -1904) بأنه أعظم كاتب قصة قصيرة شهده العالم ؟ أن سائر الأجابات على مثل هذا السؤال تبدو غير كافية لكننا نقول بكل بساطة أن تشيخوف في قصصه الناضجة التي نشرها في تسعينيات القرن التاسع عشر أحدث ثورة في ميدان القصة القصيرة من خلال تحويل مسار القصة. لقد نظر تشيخوف للحياة وفهمها على أعتبارها كافرة وعشوائية وعبثية وأن سائر التاريخ هو تاريخ النتائج غير المقصودة. وقد علم على سبيل المثال أن طيبة المرء لاتمنع من تعرضه للمعاناة القاسية وكذلك الحيف وأن الشخص الكسلان يمكن أن يتقدم دون بذل جهود تذكر وأن الأعتدال يمكن ان يكون قوة شيطانية كبيرة! وقد أفلح تشيخوف من خلال نبذ الحبكة التي تعتمد البداية – الوسط- النهاية التي يتم التعامل معها ببراعة ، كما رفض الحكم على شخصياته من خلال عدم السعي الحثيث لبلوغ ذروة الحدث climax أو البحث عن حل قصصي محكم جعل قصصه تبدو نابضة بالحياة. ويمثل تشيخوف نهاية الصفحة الأولى للقصة القصيرة الحديثة ، فمنذ وفاته كان تأثيره هائلا ومباشرا فقد أصبحت القصة القصيرة في القرن العشرين تشيخوفية النزعة على نحو شامل تقريبا فجويس سلك منحى تشيخوف وكاترين مانسفيلد أخذت منه الكثير أما ريموند كارفر Raymond Carver فقد أعتمد عليه أعتمادا أساسيا. وربما نستطيع القول هنا أن سائر القصص القصيرة التي كتبت بعد وفاة تشيخوف قد تاثرت به كثيرا بشكل أو آخر ولو أن كناب القصة القصيرة في العشرين سنة الأخيرة بدأوا يبتعدون عن منهج تشيخوف المعروف.
ومع قصص تشيخوف والقصص التي شهدها القرن العشرين دخلت القصة القصيرة عصرها الذهبي ، وصفة (الذهبي) مناسبة تماما ففي العقود الأولى من القرن العشرين كان بمقدور كتاب القصة أن يكونوا من الأثرياء خاصة في أمريكا فقد تزايدت أعداد المجلات كثيرا وتعاظمت رغبة القراء بقراءتها وتضاعفت الأعداد المطبوعة وشهدت أجور الكتاب تزايدا كبيرا جدا فعلى سبيل المثال دفعت صحيفة (ساتردي أيفننغ بوست) Saturday Evening Post مبلغ أربعة آلاف دولار لسكوت فيتزجيرالد Scott Fitzgerald لقاء نشره قصة واحدة وهومبلغ يزيد عن 20 ضعفا للمبلغ الذي يمكن أن يدفع لكاتب في وقتنا الحاضر.! وفي تلك الفترة التاريخية بدأت شعبية القصة القصيرة بالأنتشار الملحوظ كما أنها خضعت لضغوط الحداثة modernism وتأثيرها حيث بدأ هذا الجنس الأدبي يتغير على نحو صارخ الى حد ما ، فقد تميزت بعض أنواع القصة القصيرة عن غيرها كما بدأت انماطها بالتزايد.
منذ بضع سنوات كتبت مقالة في صحيفة (الغارديان) البريطانية طرحت فيها تصنيفا تقريبيا للقصة القصيرة وتوصلت الى تحديد سبعة أنواع مختلفة. وحتى مستهل القرن العشرين كان هناك تقليدان رئيسيان هما: القصة التي تعتمد الحدث في حبكتها والقصة التشيخوفية. والنمط الأول (الذي أبتدعه وليام كيرهاردي William Gerhardie) يشير الى الأسلوب الذي تتبناه القصة ذات الحبكة والتي أزدهرت في الفترة التي سبقت تشيخوف قبل أن يسود نموذجه للقصة التي تفتقر الى الشكل. ولاشك أن غالبية القصص القصيرة ، حتى في وقتنا الحاضر ، تندرج ضمن واحدة من النموذجين المذكورين. ومن هذين النموذجين أنبثقت نماذج أخرى في العقود اللاحقة. وربما تكون القصة الحديثة أكثر تلك الأشكال شيوعا حيث يتحول الغموض المتعمد والمربك في الغالب الى مزية بارزة بصرف النظر عن شفافية الأسلوب الذي تكتب به. ويعتبر هيمنغوي افضل من أسهم في هذا التوجه كما أن تاثيره على قصة القرن العشرين بعد تشيخوف هو الأكبر تقريبا.
ومن بين أنواع القصص القصيرة التي صنفتها تلك الي تدعى بالقصة الملغزة cryptic story التي تحتضن معنى مبهما يتعين على القاريء أن يحل غوامضه والذي يكمن ظاهريا داخل النص المباشر. وهذا النمط يعرف أيضا ب (القصة المكبوتة) suppressed story ويمثل تطورا متأخرا ، وربما يكون ذلك أول أبتعاد واضح عن النموذج التشيخوفي العظيم. ومثّل هذا النمط من الكتابة في منتصف القرن العشرين كتاب مثل نابوكوف وكالفينو Calvino وبورخيس Borges رغم أن رديارد كبلنغ Rudyard Kipling في قصص مثل (السيدة باثيرست) Mrs. Bathurst (1904) و (ماري بوستكيت) Mary Postgate (1917) كان قد تميز بكتابة القصة المكبوتة في فترة مبكرة. وقصة الرواية القصيرة mini-novel story تمثل أيضا أحدى أنواع الحبكة المعتمدة على الحدث وهي تحاول أن تحقق في صفحات قليلة ماتحققه الرواية في المئات من الصفحات. ويمكن أعتبار قصة (برامج عيد الميلاد الخاصة) Christmas Specials للكاتب تشارلس ديكنز نماذج مبكرة لهذا النمط رغم أن الكثير من كتاب القصة القصيرة يتعاطون معه بين الفينة والأخرى (ومنهم تشيخوف). والنمط الثاني من القصة المعروف ب (القصة الشعرية / الأسطورية) poetic / mythic story يعتبر نوعا نادرا قياسا بالأنواع الأخرى فقصص كل من ديلن توماس Dylan Thomas و دي أج لورنس D. H. Lawrence تنسجم تماما مع هذا النمط ، أما قصص جي جي بالارد J. G. Ballard التي تتناول الرحلات القاتمة الى الفضاء الداخلي فهي تتناغم مع هذا الشكل أيضا. وفي هذا النمط بالذات تقترب القصة القصيرة كثيرا من الشعر الغنائي ، وهي بذلك تسعى بكل وضوح لتحدي الخلاصة السهلة. وينظر الى قصص بالارد القصيرة الهائلة ، التي يمتد أثرها من خمسينيات القرن الماضي ، الى الوقت الحاضر ، بأعتبارها واحدة من المحاولات الناجحة للتملص من قالب تشيخوف القصصي. والنوع القصصي الأخير الذي يمتد حتى وقتنا الحاضر يدعى القصة السيرية biographical story ، وهو تعبير يشمل القصص التي تتحرك على نحو متقطع وتتعاطى مع الجوانب الواقعية أو التنكرية على أعتبارها فنا غير روائي. وغالبا مانلاحظ أستخدام معوقات الكتب غير الروائية في هذا النمط الأخير (مثل الهوامش والأحاديث الجانبية للمؤلفين والصور الأيضاحية والأقتباسات والتغييرات التي تطرأ على خط الطباعة والأحصاءات والتحايل النصي وما الى ذلك) ، وهذا يمثل أحدث تطور طرأ على شكل القصة القصيرة وحصل في أمريكا في تسعينيات القرن الماضي حين أنبرى عدد من الكتاب الشباب وتحمسوا لتبني هذا النوع لعل من أشهرهم ديف أكيرز Dave Eggers و ديفيد فوستر والاس Dave Foster Wallace و وليم تي فولمان William T. Vollman. أما على ايدي الكتاب الأقل تمكنا فمن السهولة ان ينحدر مثل هذا النوع الى التوجهات النزوية وبالغة الرقة على نحو متصنع (وهي تستحق تقريبا التصنيف الفرعي الذي ترتبط به). وقصة السيرة الذاتية أيضا ترسم صورة أناس حقيقيين لعالم القصة أو تتناول سلسلة أحداث خيالية لأناس حقيقيين. ويمكن النظر الى ذلك بأعتباره مسعى من القصة ذاتها في عالمنا الحديث الذي يعج بوسائل الدعاية والأفلام الوثائقية والصحافة والأخبار المتداولة طيلة 24 ساعة لأستعمار بعض تلك الأرجاء وغزو العالم المبني على الحقيقة وأبقاء القصة الخيالية في موقع صلد تماما من خلال أضعاف الخط الذي يفصل الحقائق الراسخة عن تلك المستحدثة تماما مثلما يفعل آكل لحوم البشر حين يلتهم دماغ عدوه كي يجعله أقوى! ورغم أن هذا النموذج قد تأثر بالنموذج التشيخوفي فأنه ربما يكون أكثر التوجهات البارزة التي أخطتها القصة القصيرة الحديثة.
ولأنني كنت أحد الحكام الذين كلفوا بتقييم القصص القصيرة المتنافسة على (جائزة القصة القصيرة الوطنية) The National Short Story Prize التمهيدية فقد عكفت على قراءة العشرات من القصص القصيرة في غضون الأشهر القليلة الماضية مما أتاح لي الفرصة المؤاتية الى حد ما لتشخيص حالة القصة القصيرة المعاصرة. والشيء المثير للأهتمام هنا أن الأسلوبين الرئيسيين في أعلاه مايزالان مهيمنين وخاصة ما يتعلق بتشيخوف. أما الأنماط الأخرى فقد جاهدت أيضا لتترك بصمتها في الساحة الأدبية لكنها لم تحقق سوى نجاح محدود حيث يبدو أن الأنجاز الذي تحقق في مستهل القرن العشرين شكّل نوعا من محطة راحة لكتاب القرن الواحد والعشرين. وتضم القائمة الموجزة التي تحتوي على خمس قصص وفق تصنيفي البديل بشكل مؤقت قصة واحدة من النمط الذي يحتوي على حدث يستند الى حبكة وقصتين مؤلفتين على النمط التشيخوفي ورواية قصيرة فضلا عن قصة ملغزة. لكن المعيار كان عاليا الى حد كبير وهو مؤشر على أن القصة القصيرة بلغت حينئذ مكانة مرموقة. ورغم بروز صعوبات تحول دون نشر القصص القصيرة في هذا البلد وفي بلدان أوربية أخرى فأن السوق الأمريكي مايزال واسعا ومربحا كما أن تنامي دورات الكتابة الأبداعية في الولايا المتحدة وفي بريطانيا ربما يؤدي الى تبلور الصفحة القادمة لتاريخ القصة. وتتصف القصص القصيرة أيضا بسرعة كتابتها نسبيا وبكونها أداة تعليمية متكاملة. وأطن أن هذه الحقيقة توضح سبب توجه الكثير من الكتاب الأمريكان الشباب لهذا الشكل الكتابي فضلا عن تزايد دور الطباعة التي تتولى نشر القصص ، وهو ماتسعى أليه أيضا دور النشر التي تعمل على الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي.
أن ميل القراء لقراءة القصة القصيرة ، والذي تجذر أبان فترة القرن والنصف الماضية ، ظل على حاله في واقع الأمر رغم أهواء دور النشر. ويتمثل السبب مثلما ذكرت سابقا بوجود توجه لاشعوري في أذهاننا للقصة القصيرة غير أن الثورة التي أحدثها تشيخوف هدفت الى خلق قصة قصيرة تغير بموجبها السرد القصصي. وقد غدت مظاهر معينة مثل العشوائية وتعذّر التفسير والحذف الأتفاقي ، بالنسبة لتشيخوف ، شكلا فعليا للقصة القصيرة وتم التخلي عن (التصميم الجميل وتلاعب المؤلف بالسرد والخاتمة التي تكيّف وفق حاجة معينة) وأصبح لدينا على نحو مفاجيء أسلوب قصصي يتماشى مع أنماط الحياة العشوائية والأتفاقية التي يتعذر تفسيرها والتي درجنا عليها. من جانبها لم تكن فرجينيا وولف كاتبة قصة قصيرة متمكنة (وهذا ربما يبرر غيرتها البالغة من كاترين مانسفيلد) ، لكنها كانت مصورة فوتوغرافية هاوية رغم ماأتصفت به من براعة وموهبة. وقد قالت عن الفن الفوتوغرافي (أليس من الغرابة أن يلاحظ المرء الكثير في الصورة ممالايجده في الواقع؟!). ومثل هذا الرأي كما أظن يعيننا على التعاطي مع ما تتمتع به القصة القصيرة من قدرات وجاذبية فهي تقدم لنا لقطات خاطفة عن الوضع الأنساني والطبيعة البشرية ، وحين تكون تلك القصص متقنة ومؤثرة فأننا عندئذ نحظى بفرصة نادرة لأننا نرى فيها أكثر مما نراه (في حياتنا الواقعية).
—————————————————————————————————-
1 حكاية أيسلندية قديمة تزخر بالأعمال البطولية. (المترجم)