مقالات

بقايا‭ ‬الطعام

د.نزار محمود

قبل‭ ‬أيام‭ ‬كنت‭ ‬عند‭ ‬طبيب‭ ‬الإنسان‭. ‬وجملة‭ ‬بقايا‭ ‬الطعام،‭ ‬يجري‭ ‬تداولها‭ ‬كثيراً‭ ‬في‭ ‬مثل‭ ‬هذه‭ ‬العيادات‭ ‬بالعلاقة‭ ‬مع‭ ‬التكلسات‭ ‬والالتهابات‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أمراض‭ ‬الفم‭ ‬والأسنان،‭ ‬ناهيك‭ ‬عن‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تولده‭ ‬من‭ ‬روائح‭ ‬غير‭ ‬طيبة‭ ‬في‭ ‬الفم‭.

‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬طفولتنا‭ ‬لا‭ ‬ينفك‭ ‬آباؤنا‭ ‬ومعلمونا‭ ‬كذلك‭ ‬من‭ ‬حثنا‭ ‬على‭ ‬تنظيف‭ ‬أسناننا‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬الطعام‭ ‬لا‭ ‬سيما‭ ‬قبل‭ ‬الذهاب‭ ‬الى‭ ‬النوم‭.

بيد‭ ‬أن‭ ‬لبقايا‭ ‬الطعام‭ ‬حكاية‭ ‬كبيرة‭ ‬أخرى‭. ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬ونعيش‭ ‬حياة‭ ‬البشرية‭ ‬بين‭ ‬شمال‭ ‬وجنوب،‭ ‬شمال‭ ‬متخم‭ ‬اعتاد‭ ‬أبناؤه‭ ‬الأكل‭ ‬حد‭ ‬التخمة‭ ‬ورمي‭ ‬بقايا‭ ‬طعام‭ ‬بالأطنان،‭ ‬وجنوب‭ ‬فقير‭ ‬يتضور‭ ‬جوعاً‭ ‬يبحث‭ ‬في‭ ‬الزبالة‭ ‬عما‭ ‬يقتاد‭ ‬عليه‭.‬

والأدهى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬عندما‭ ‬يقترن‭ ‬التبذير‭ ‬والاسراف‭ ‬ذلك‭ ‬بعادات‭ ‬وقيم‭ ‬اجتماعية‭ ‬لا‭ ‬يتمكن‭ ‬البعض‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الافلات‭ ‬منها،‭ ‬رغم‭ ‬تبعياتها‭ ‬وتداعياتها‭.

‬أيام‭ ‬الحصار‭ ‬ضد‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬تسعينات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬لقاء‭ ‬مع‭ ‬بعض‭ ‬أفراد‭ ‬أسرتي‭ ‬في‭ ‬الأردن،‭ ‬وجدتهم‭ ‬يغبطون‭ ‬قططاً‭ ‬على‭ ‬بدانة‭ ‬أجسادهم‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬قططنا‭ ‬الهزيلة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬بسبب‭ ‬شحة‭ ‬ما‭ ‬راحوا‭ ‬يبحثون‭ ‬عنه‭ ‬في‭ ‬الزبالة‭ ‬والقمامة‭ ‬هناك‭!‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬والشعوب‭ ‬ترمى‭ ‬يومياً‭ ‬ملايين‭ ‬الأطنان‭ ‬من‭ ‬بقايا‭ ‬الطعام‭ ‬بوصفها‭ ‬زبالة‭ ‬أو‭ ‬قمامة،‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬الحين‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬فيه‭ ‬ملايين‭ ‬الملايين‭ ‬ما‭ ‬يسدون‭ ‬بها‭ ‬رمق‭ ‬عيشهم‭. ‬انها‭ ‬صورة‭ ‬سريالية‭ ‬لواقع‭ ‬يعيشه‭ ‬البشر،‭ ‬قد‭ ‬يمكن‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬التعامل‭ ‬معها‭ ‬بايجابية‭ ‬أكثر‭ ‬لكننا‭ ‬لا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬نحلم‭ ‬بغيابها‭ ‬كلياً،‭ ‬لأسباب‭ ‬عملية‭.‬هذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬جرى‭ ‬تناولها‭ ‬بأشكال‭ ‬كثيرة،‭ ‬تربوية‭ ‬واجتماعية‭ ‬وحضارية‭. ‬لقد‭ ‬حذرنا‭ ‬الكبار‭ ‬من‭ ‬التبذير‭ ‬والإسراف‭. ‬فكم‭ ‬كان‭ ‬منظراً‭ ‬جميلاً‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬طفلاً‭ ‬يرفع‭ ‬قطعة‭ ‬خبز‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬ينظفها‭ ‬ويقبلها‭ ‬ويضعها‭ ‬على‭ ‬رأسه‭ ‬شاكراً‭ ‬لله‭ ‬نعمه،‭ ‬ثم‭ ‬يتركها‭ ‬لمن‭ ‬هو‭ ‬بحاجة‭ ‬اليها‭ ‬من‭ ‬بشر‭ ‬أو‭ ‬حيوان‭.‬ومع‭ ‬انتشار‭ ‬مطاعم‭ ‬البوفيهات‭ ‬المفتوحة‭ ‬ترى‭ ‬ظاهرة‭ ‬الإسراف‭ ‬في‭ ‬التبذير‭ ‬ورمي‭ ‬الطعام‭ ‬على‭ ‬مصراعيها‭. ‬حدثني‭ ‬مدراء‭ ‬أحد‭ ‬المطاعم‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬ما‭ ‬يروي‭ ‬انه‭ ‬يرمى‭ ‬طناً‭ ‬تقريباً‭ ‬من‭ ‬اللحوم‭ ‬في‭ ‬حاويات‭ ‬القمامة‭ ‬يومياً‭.‬ورغم‭ ‬ما‭ ‬بدأت‭ ‬تأخذ‭ ‬به‭ ‬بعض‭ ‬ادارات‭ ‬المدن‭ ‬والمؤسسات‭ ‬من‭ ‬معالجات‭ ‬اعادة‭ ‬التدوير،‭ ‬لكن‭ ‬الهدر‭ ‬والتبذير‭ ‬مازال‭ ‬كبيراً،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المطاعم‭ ‬العامة،‭ ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬مكبات‭ ‬بقايا‭ ‬الطعام‭ ‬لدى‭ ‬الأسر‭ ‬والعوائل‭.‬كم‭ ‬هو‭ ‬مؤلم‭ ‬إنسانياً،‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يكون،‭ ‬أن‭ ‬ترى‭ ‬من‭ ‬ينتظرك‭ ‬ترمي‭ ‬بقايا‭ ‬الطعام‭ ‬قمامة‭ ‬ليركض‭ ‬اليها؟‭!

انها‭ ‬تربية،‭ ‬وانه‭ ‬سلوك‭ ‬اقتصادي،‭ ‬وهي‭ ‬مسألة‭ ‬حضارية‭!‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى