مأكول مذموم ياولدي
مأكول مذموم ياولدي – ياس خضير البياتي
حار فكري بين رأيين يتصارعان في رأسي: رأي يدعوني عن التوقُّف عن الكتابة لأنها غير مجدية؛ حيث يقول لي مُؤيدًا بيتَ الشعر: (لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا…ولكن لا حياةَ لمن تُنادِي!). ورأي آخر معارض؛ حيث يجعل ضميري يُؤنبني ويقول لي: أنت تكتب عن نار ورماد الوطن، وفواجعه، وأحزانه، ونكباته بقصد سابق، ولا تكتب عن الفرح، ومسرات الطفرات الجينية لبذور الأمل التي تنمو في بعض حياة البشر والصخر!والحق أن كليهما على حق؛ فالأمزجة تختلف، والتطلُّعات تتباين، والقلوب تنحاز لهذا الطرف أو ذاك، من منطلقات حزبية وطائفية وسياسية، وعمى الألوان يتداخل فيه الأحمر والأخضر، والأزرق والأصفر، ولا فرق بين الإصابة بالعمى الثلجي وعمى الألوان بمنطق الطب.“لا حياة لمن تنادي”، هذه لها قصة مزعجة تتوالى بالأرقام والنيات، تجعلك تعيش جحيم التحديات، وتأنيب الضمير، ونشوة الموقف. فالبعض يراك خارج نطاق الواقع؛ لأنك تكتب بلا صدى، أشبه بعبث لا يستحق معه تدمير نفسك بالقلق، وضياع الوقت، وارتفاع الضغط، وتصلُّب الشرايين.ما جدوى أن تنشر وسط مستنقع الفساد والقتل والخطف وضجيج الكوارث، وموت ضمير السياسي الذي يقرأ مقالتك، ثم ما يلبث أن يغرق بالضحك والتندُّر على ما تكتب؟! وما جدوى أن تبحث بكلماتك عن قارئ لا يبحث إلا عن رغيف الخبز، أو أن تهمس معانيك لسابح في ملكوت التحشيش أو الغيبيات أو لمن يلهو بتفاهات وسائل التواصل الاجتماعي، وستجد نصف هؤلاء لا يقرأ ولا يكتب!إنه لغزٌ كبير، أن تتدرج في حل معادلات رياضية بمعطيات وبراهين ثابتة، لكنك تفشل في الوصول إلى النتيجة الصحيحة في بلد صعب، يحتضن الحضارات المختلفة؛ لكنه يطفو على بحر من الغرائب والعجائب، ويصحو وينام على النفاق الفج والشوائب؛ ثم ينقلب رأسًا على عقب فيسير بالمقلوب!
بالأمس القريب، كنا نحتفل بعيد الصحافة، وشهدنا احتفالاتٍ كبيرةً ومتميزةً، وحضورًا عربيًّا فاعلًا، وسمعنا عن هذا اليوم ساعاتٍ من الأحاديث الوردية من رجال العلم والصحافة والسياسة. لقد كان النفاق متصدرًا المشهد؛ الرئاسات الثلاث وقادة الأحزاب والبرلمانيون والوزراء، وأصحاب النفوذ السياسي ورجال المال وأساطين الفساد يتبارون جميعًا بأدوات النفاق المعروفة و(المفقوسة)؛ لإظهار مودتهم وولائهم للسلطة الرابعة.
فها هم جميعًا يقولون كذبًا ونفاقًا ورياءً: الالتزام بحرية الصحافة، وتعزيز مكانة الصحافة العراقية الحرة كشريك قوي، والاعتزاز بدورها الوطني.أقوال ولا أفعال!؛ فالصحافة العراقية تبحث عن حريتها تحت القيود، وهي تعيش تحت وهم الحريات الزائفة، لك الحق أن تكتب نقدًا؛ لكنك بدون حماية قانونية، فالقتل متواصل سرًّا وعلنًا، وهناك ما يزيد على أكثر من 500 صحفي قُتلوا منذ عام 2003 في ظروف مختلفة بيد الحكومة أو المليشيات الوقحة أو الإرهاب.وهناك ملاحقات قضائية وتهديدات وترهيب ومضايقة وانتقام، وتفجير لمؤسسات إعلامية، ومُصادرة للمعدات الإعلامية أو إتلافها، وتكميم للأفواه، وتمييز واضح بين مؤسسة وأخرى في الدعم. وقد دخلت الأفواج المُسيَّسة والانتهازية والطارئة للعمل الصحفي؛ حيث دمَّرت المهنة من ناحية الرسالة والموقف والأخلاق!نعم، الصحافة العراقية تعيش أيامًا عصيبة وصعبة، وملوثة بذخائر الحروف العبثية المليئة بالتزلُّف والنفاق والتنمُّر والصفقات؛ فقد ضاع زمن الحبر الأسود الممزوج بالتعب والاستقامة والنزاهة، و(تعطَّلت لغة الكلام…) في الشجاعة والضمير؛ حيث أُضيع الحقُّ بالباطل؛ فأصبح الحق زهوقًا، وكتابة الحرف الصادق أضحت صعبة جدًّا، وثمنها رصاصة غدر من جاهل حافي القدمين ومخبول العقل. وما أفلح وطن ضاع الحق فيه!وبعد، أليس من حق دعاة “لا حياة لمن تنادي” أن يُجيبوا لك عن هذا السؤال: أين صدى الكتابات الصحفية؟ ورئيس وزرائنا ومكتبه الإعلامي، وباقي جوقة المسؤولين، لا يعلقون بالسلب أو الإيجاب، ولا يُتابعون مشاكل الناس بما يُنشر، وكأنهم من أهل الكهف، ومع ذلك تسمعهم يقولون: نحن شركاء مع السلطة الرابعة!ورغم ذلك أقول: هل الأفضل أن تسكت عن الباطل، ولا تنشر غسيلهم القذر أم تواجه الخطرَ مثل القنفذ المنكمش الذي يكور نفسه على هيئة كرة شوكية، أو مثل الخفافيش التي تأنس بالظلمة؟ نعم، لقد غدا من الصعب عليّ أن أضع وطني في جيبي، وأنا مريض به!القصة الأخرى، وهي تُهمة أن تكتب عن الوطن برماد فواقعه، وهي تهمة لا أنفيها ولا ألتزم بها، لكن المعجم السياسي يقول: عليك أن تفرق بين الوطن والدولة، فالوطن للجميع، والدولة لذوي الامتيازات، فمن يحمي ويموت في سبيل الوطن هم الفقراء، ومن يظفر بالسلطة والكراسي هم الأغنياء وأصحاب المصالح الذين تجدهم إذا ما جف الضرع فإنهم أول من يُضحون بالوطن ويكونوا سببًا في إحراقه بما فيه ومن فيه!.إنها متواليات أحزان، وفواجع وكوارث وحروب عبثية، لم تكن مفيدة للمواطن، ولم يجن منها سوى الفقر والأوجاع؛ بل كانت هذه وتلك رحمة للسلطة لتعانق البقاء (اللذيذ)، وكانت رفاهية للحاكم وزبانيته. لم أكتب ما كتبتُ حقدًا أو لمواقف سابقة؛ إنما كتبتُ عن فواجع المواطن والوطن، بدليل أنني كتبتُ عن بعض الظواهر الإيجابية التي كانت نقطة في بحر، وكلما ظننتُ أنني أقترب من الأمل أجد نفسي أمام الحقيقة المرة؛ في ظلمة اليأس القاتم، وسراب خادع!كنت سعيدًا ببعض ما يجري من خطوات إيجابية في زمن السوداني، ورؤيته للمشكلات والتحديات، لكن ما حدث مؤخرًا في إقرار الموازنة يُثير الأوجاع، ويسلب كلَّ أمل زُرِع في واحة الانتظار. إن ما حدث لا يمكن السكوت عنه بالحرف والنطق؛ مأساة لا تُغتفر؛ ووجعٌ يُدمي القلب. فلا يُعقَل أن تُوزَّع ثروات العراق خارج حدود الوطن، والفقر العراقي يصل في بعض المحافظات إلى 60 بالمئة والجوع ينهش في معدة الفقراء، والشوارع متهالكة، والمدراس لا تزال من الطين في عصر الأبراج، والكهرباء خارج تغطية العمل، والحارات والمدن تغرق بالأوحال والمياه الآسنة التي تسكنها قاذورات المجاري وجيف الحيوانات.
أعرف أن الذاكرة العراقية ضعيفة بالحساب والجبر، لكنني أُذَكِّرهم اليوم بأننا نضع ميزانية مالية لجزر القمر والصومال والسودان، وإطفاء جميع السلف المالية التي تُقدَّر بالمليارات على الوزارات التي سرقتها الأحزاب ومافيات الفساد. إنه ابتكارٌ جديد، وسرقة في وضح النهار، بمنطق الأواني المُستطرقَة!والأغرب، رفع رواتب المتقاعدين إلى 750 ألف دينار لإخوتنا في مصر وإيران ولبنان والسودان واليمن وغيرها، بينما أهل الوطن والمال من المتقاعدين الذي يجلسون على بحيرات النفط، ويتجرعون سمَّ عذاب الحياة الممرضُ والقاتل، فلا حصة لهم في مالهم لأنهم من أهل دار كتب عليه “مباع للفاسدين”!لقد صدق وكيل وزير المالية الحالي عندما علَّق على إقرار الموازنة بقوله: (لا تستغربوا …في العراق كل شيء يصير) …. والمثل الشعبي المُعدَّل بتقادُم الزمن؛ (عراقٌ مأكولٌ مذموم) ياولدي!