الحفرة العميقة
الحفرة العميقة – ياس خضير البياتي
لا أدرى على وجه الدقة، إذا كان مصطلح الإيقاع “بالحفرة العميقة ” متداول في أدبيات العلوم السياسة، مثلما متداول مصطلح “الوقوع في الحب “ في عالم الحب والغرام.
وشتان بين الاثنين؛ الأول شيء مخيف وحزين، قد تكون النهاية مأساوية؛ الوقوع في حفرة مظلمة تشبه القبر، حيث قبر الأنسان في حياته ومماته. والثانية مفرحة ومبهجة خيرها أكثر من شرها، وشرها الذ من خيرها أحياناً.في السياسة لاحب دائم، ولاكره ثابت، ولاعدوات مستمرة. المصالح هي السائدة، حيث الأخلاقيات معدومة، وحُفر الموت تنتشر لأسقاط العدو فيها. هناك في السياسة مصطلحات كثيرة؛ حافة الهاوية، الحرب بالإنابة، التوريط السياسي، وجميعها طبقت قديما وحديثا.نرى دول أنقذت نفسها من زوابع الحروب والتدمير بفعل حكمة قادتها، والأخرى دخلت في أوحال الموت، والتقطيع والتقسيم والفوضى لأن حاكمها يعشق الاستبداد والأساطير والدم. لذلك قيل “لا تعطي السياسي مفاتيح الدولة، الأفضل أن تغيير الأقفال” حيث الوعي العقلي يسبق النشاط السياسي.كشفت مجريات الحرب الروسية الأوكرانية التي ابتدأت في 24 شباط 2022 بأنها حرب طويلة الأمد قد تستمر سنوات، وليس هناك في الأفق مؤشرات على اقترابها من وضع أوزارها. حرب توريط لا يقاع روسيا في “الحفرة العميقة” بطريقة ممنهجة، وعلى نار هادئة.وبالرغم من تجارب التاريخ، مازال بعض القادة لا يستثمرون أحداث التاريخ في فهم ما يجري في حاضرهم، ومصيبتهم أنه ” لا يفرق بين الخيار الاستراتيجي والخيار باللبن …عندها لن ترى أي فرق بين السُلطة والسَلَطة ” كما يقول بتندر محمد الماغوط.أن سياسة أمريكا الجديدة هي تلقيح استراتيجية “التوريط” “بالحفرة العميقة” الملائمة للدول الكبرى، حيث خلقت بؤر للتوتر لكل دولة مجاورة؛ روسيا وأوكرانيا، الصين وتايوان، كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية، تركيا واليونان، الخليج وإيران واليمن، مصر وأثيوبيا. بالمختصر؛ دولة مارقة مقابل دولة مؤيدة، ودولة المركز تحرك الأحداث وفق استراتيجيتها ومصالحها بالترتيب الزمني الملائم، وقواعد الاشتباك المختلفة.و” الحفرة العميقة”، حسب رؤيتي، تقوم على مبدأ تجهيز حُفر عميقة للدول التي يصعب ابتلاعها بسرعة، عكس بعض الدول الصغيرة الهشة التي انهارت بسرعة جراء سياسة التوريط، حيث يكون اقتناصها سهلاُ. هي تصنع دول مجاورة للدول المعادية وتمدها بأدوات الحفر وأجهزة الاستشعار، ومقومات المقاومة، وبعض المغريات الاقتصادية، واللعب على المتناقضات، وعوامل الفرقة بين الدول، وهشاشة الأوضاع.تقوم سياسة أمريكا في صراعها مع روسيا والصين على مبدأ ” الحفرة العميقة” التي لا يمكن لهما الخروج منها. بمعنى القاء العدو في هذه الحفرة ومنعه من التنفس الطبيعي، وعدم رؤية الواقع السياسي بالألوان الطبيعية. كلاهما عدو استراتيجي يقوضان مشروعها للسيطرة على العالم، وحلمها بإمبراطورية كونية.منذ سنوات، بدأ المخطط الأمريكي، يهيئ أوكرانيا المجاورة لروسيا للبدء بعملية حفر الحفرة باستخدام أدوات السياسة المختلفة، وهندسة الواقع؛ فاختير الرئيس الممثل الذي تم تجميله بمساحيق وعطور الديمقراطية الأمريكية، وقُدم الصبي السياسي على أنه راعي الرفاهية والانفتاح، ومهندس دخول أوكرانيا للاتحاد الأوربي والناتو، وبلد السياحة والاستثمار. لكن الثمن كان يتجه صوب بناء المافيات ومجموعات متطرفة وعصابات الاتجار النووي، وبناء المختبرات البيولوجية التي أصبحت الأخطر على الأمن القومي الروسي.ومن الجانب الآخر، استثمرت أمريكا عوامل سياسية وسيكولوجية لإيقاع بوتين المهووس بإنشاء إمبراطورية على غرار الاتحاد السوفيتي في “الحفرة العميقة”، وفتح شهيته على تحقيق هذا الحلم. كما وظفت العلم في دراسة شخصيته التي تُظهر فيها عوامل بارزة؛ الشغف بالاستبداد، الاستعداد للمجازفة، الحنين للماضي، حب السيطرة على الآخرين، الميل للإثارة، شديد النرجسية، وحساسية مفرطة للمخالفة أو النقد أو العناد.ما يقال عن الخطأ والصواب في منطق الرياضيات شبيه بالسياسة، فهناك الغاز سرية يصعب فتح تشفيرها. وتصرف بوتين، يحتاج إلى معلومات دقيقة ليست تقليدية، مثلما يحتاج إلى تفسيرات علمية قائمة على مبدأ الوثيقة؛ فهناك شكوك كثيرة مازالت تحتاج إلى إثباتات عينية، وفراسة ذات بصيرة تعتمد على دراسة الواقع الحاضر من زاوية قوة الإدراك والفطنة والخبرة، بل تحتاج إلى رؤية ثاقبة ونافذة تصل إلى بواطن الأمور وحقائقها، ولاتتوقف عند الظواهر التي قد لا تعكس الحقائق والبواطن.من الجانب الآخر، هناك مواقف متناقضة للرأي العام؛ بعضها مرتبط بتاريخ الاتحاد السوفيتي ومواقفه إزاء الدول الفقيرة، وما تحمله من روح انتقامية متأصلة بمداركها الباطنية، كون أمريكا دولة ظالمة ومخربّة عبر التاريخ. وهناك من ينظر لأمريكا كونها دولة مُحررّة للشعوب من الاستبداد والقمع؛ متناقضات بين البشر تقاس بالرغبات وتقلبات الأنفس وأمزجة الأجيال، والصور النمطية للإعلام.لكن الحقيقة الأكبر من استنباط حقائق التاريخ، بان الحروب لا تولد إلا الكوارث والأوجاع والأحزان.
والسيطرة الأمريكية على العالم سَتخلق النكسات والأزمات والظلم للدول الفقيرة. وشتان بينهما؛ أحدهم يعطيك خبز الاستبداد، والآخر يمنحك الحرية بشكولاتة الفوضى والأزمات!الرفيق بوتين وقع في الحفرة العميقة، وسيستخدم السلاح النووي التكتيكي عندما ينفذ الأوكسجين في الحفرة. والاتحاد الأوربي في مأزق كبير، وسيدخل في غيبوبة اقتصادية كبيرة. سيكتشف لاحقاً بانه سيلحق روسيا في الحفرة الأمريكية. مازلنا في بداية الأزمة، وسنرى أشياء كثيرة لم نتوقعها حتى في الخيال الافتراضي.والعالم أصبح منقسماُ بين الرفيق بوتين الذي يدغدغ أنصاره في العالم بحلم عودة العلم الأحمر والمطرقة والمنجل والنجمة الصفراء، ومناصرة الدول الجائعة والمظلومة، وبين أمريكا التي تزرع الرعب والقوة العسكرية في العالم بشكولاتة المال والاقتصاد، وعجائب التكنولوجيا، وعطور الحرية.كلاهما يحلم في التفوق، وإثبات الرجولة في عالم يمتلئ مخازنه بأسلحة الدمار النووي والبيولوجي والكيمياوي، وسماءه بتجارب الصواريخ البلاستكية العابرة للقارات، ومختبرات لصناعة أشرار الفتن والحروب. عالم يُخترع فيه العدو والشر كذباً، ويُقتل الأنسان بضمير مرتاح دون وخز الضمير!والسياسة من الآخر، علم، وفنّ الممكن، مقرونة بالمكر والخداع. تعلم السياسة من الثعلب الماكر الذي يَنقضّ بين فترة وأخرى على الدجاجات خلسة قبل أن يجهز عليها !