خُلق العراق سيّداً
خُلق العراق سيّداً – علي الشكري
المتتبع لتاريخ البلدان ، يجدها خليط غير متجانس ، يجمع الغث والسمين ، الأصيل والحديث ، الغني والفقير ، الممتلىء والفارغ ، كثير الانتصارات والهزائم ، ذات السلالة الممتدة ومقطوعها ، مترامي الاطراف وصغيرها ، المتصدي والمدعي ، المنفتح والمنكفئ ، المتمدد والمُنحسر ، من يجمع المقومات والمحجوبة عنه . والباحث في تاريخ العراق يجده أصيل سمين غني ممتلىء ممتد مترام متصد منفتح ، فالعراق وطن الكرامات جميعاً ، حضارته ممتدة ، تاريخه سلسلة انتصارات ، أرضه خصب ، وماؤه عذب ، ورجاله شجاعة واقدام وبطولات ، بين ربوعه نشأة وترعرت رجالات الميدان والشجاعة والعلم والفقاهة والدين ، حوت أرضه الاجساد الطاهرة لأئمة أطهار وأنبياء وأوصياء واصحاب الكرامات ، تآمر عليه القاص والدان ، حسداً وغيظاً لما رُزق فيه وما كُرم به ، يشح الخير وأرضه مخضرة ، يجف الماء ونبعه دافق ، ينهزم الولدان ورجاله متصدية ، تستورد البلدان رجالات العلم وعلماؤه ينتشرون في بقاع الارض ، تقحط الموائد ومائدته عامرة ممتدة ، أسس العراق لدولة مدنية دستورية سنة 1921يوم كانت البلدان العربية راكعة للمحتل ، عرف الدستور والمجلس النيابي والحكومة الحائزة على ثقة البرلمان ، حيث كان الغالب من شعوب البلدان العربية لا يفك رموز الكلمات ولا يعرف تركيب الجمل والعبارات . نعم تآمر على حكمه الاشقاء ، واطاح بدستوريته العملاء ، وانقلب على اركان مدنيته عسكر أُجراء ، فحولوا الدائم من الدساتير الى مؤقت ، والمنتخب من المجالس الى معين منتقى، ونقلوا الشرعية الدستورية الى اللاشرعية الانقلابية ، وبعد أن كانت التظاهرات المطالبة بالتصحيح تجوب الشوارع ، صارت المسيرات تؤيد الاستبدادات والتقييدات والشموليات ، فتحول الشعب قطيع تابع ، الموت يلاحق من يخرج عنه أو يغرد خارجه ، وبعد أن كان الجيش سور الوطن ، الذائد العنيد عن العروبة وارضها المسلوبة ، راح يجوب البلدان بحثاً عن العدوان ، فمرة الجارة ايران ، وثانية الشقيقة الكويت ، وثالثة تهديد ووعيد من لا يؤيد التوجهات والنزوات ، حتى راح الوطن وارضه مرهونة للمحتل والارهاب ومن ظل يعيش عقدة السيد والعراق حرٌ معافى .اعتقاد جازمنعم تقدم الاخر والعراق يقف حيث هو ، شُيد من كان يتطلع الى بغداد غابطاً وحاسداً ومتمنياً ، والعراق يجتر العمران ، تقدم من اتخذ من الصفوف الخلفية مجلساً له والعراق تخلف ، وتكالب الشقيق والجار والصديق على الكبير الجريح الاسير الكسير ، لاعتقاده الجازم أن لا مقام له والعراق قائم ، لكن العراق يبقى حي وإن ظن البعض أنه رحل ، فركونه الى السكينة ليس الاولى ، والتآمر عليه لن يكون الاخير ، فكل قوي مقوّم متنعم ، محسود يغيض المتطلعين . فتاريخ العراق احتلالات وانكسارات وفوضى واضطرابات وفتن ، لكن العاقبة انتصارات وتحريرات وبناءات وتشييدات ، احتله المغول وفارس والعثمانيون ثم الانجليز ، والخاتمة تحرير ودستور وبناء وتصدر وتصدي ، ومن راهن على موت الكبير فليقرأ التاريخ بعينة فاحصة باحثة عن الحقيقة ، فعراق فيه علي والحسين (عليهما السلام ) لن يموت ، فذكرى أربعينية الخالد المصلح قبل ايام معدودات مضت ، ملأت أخبارها الدنيا وشغلت الناس ، حتى انها اعادت اخبار المعتم على طيباته الى الواجهة من بوابة الكرم وحسن الضيافة والتدبير ، وإن حرص الاعلام على تجاهلها بحجة الراحلة البريطانية . لقد خرج العراق منذ سنوات من قائمة الكرامات والتميزات ، فأعادته الذكرى الخالدة الى الواجهة ، إذ دخل موسوعة گينز للارقام القياسية في كون الزيارة الاربعينية اكبر تجمع بشري سلمي ، كما دخل قائمة اليونسكو من بوابة الكرم والجود ، إذ كانت مائدة المحتفى بذكراه الأكبر في العالم ، وبالقطع أن شعب حاباه الله بمثل هذا الكرامات يبقى حي وأن حُرص على قتله ، واذا كانت الجراحات قد اثخنته طعناً وغدراً وتآمراً ، فالقادمات من الايام كفيلات باعادته متقدماً متصدراً منصورا ، فقد غاب من تآمر عليه سابقاً وظل هو الحي المتجدد.