قدسية التوراة ضحية للتسقيط الديني
الكاتب : نبيل عودة
تزوير تاريخ فلسطين، ليس جديدا بطروحات الحركة الصهيونية، نحن المواطنين العرب الفلسطينيين في مناطق 48 شهودا على تزوير واسع للجغرافيا والتاريخ، وعبرنة أسماء الكثير من البلدات العربية، والينابيع، والمقامات الدينية الإسلامية خاصة، التي أصبحت يهودية لدرجة ان بعض القرى المهدومة والبارزة اثارها حتى اليوم، يدعي مرشدي السياحة للزوار الأجانب انها آثار رومانية قديمة. او بقايا اثار هسكوسية او يهودية .. كما جرى مثلا في قرية كفر برعم المهجرة، حيث يوجد مبنى روماني قديم، ادعوا انه كنيس يهودي، لكن حتى حاخاماتهم (رجال الدين اليهود) رفضوا هذا الادعاء، لأن اتجاه الهيكل ليس باتجاه القدس، فأزال المسؤولين الشعار الروماني الذي كان معلقا على مدخل المبنى ، ويواصلوا الادعاء انه مبنى يهودي. رغم ان كفر برعم لم يسكنها او يسكن بمحاذاتها أي يهودي او بلدة يهودية.
في السنوات الأخيرة ينشط بعض الباحثين اليهود لانكار وجود شعب فلسطيني، وانه مجرد انتاج عربي من قبائل وحركة احتلال إسلامي.. الخ.
طبعا هناك باحثين يحترمون عقولهم وعلومهم، مثلا بروفسور زئيف هرتسوغ، عالم الآثار الإسرائيلي والأستاذ في دائرة الآثار وحضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب، والذي أسندت إليه الحكومة الإسرائيلية العديد من مشاريع التنقيب عن الآثار في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قام في تشرين أول عام 1999 بنشر مقالة في ملحق جريدة هآرتس اعترف فيها بما كان قد وصل إليه علماء آثار عالميون منذ عقود، فكتب يقول:
“إن سكان العالم سيُذهلون، وليس فقط مواطنو إسرائيل والشعب اليهودي، عند سماع الحقائق التي باتت معروفة لعلماء الآثار الذين يتولون الحفريات منذ مدة من الزمن. فبعد الجهود الجبارة في مضمار التنقيب عن “إسرائيل القديمة” في فلسطين، توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، فلم يكن هناك أي شيء على الإطلاق يدل علي وجود اليهود في فلسطين، وحكايات الآباء التوراتية هي مجرد أساطير. لم نهبط من مصر، لم نحتل فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داود وسليمان. إن المكتشفات الأثرية أظهرت بطلان ما تضمنته النصوص التوراتية حول وجود مملكة متحدة يهودية بين داوود وسليمان في فلسطين.”
وأضاف هرتسوغ ما مفاده أنه يمكن الجزم بصورة قاطعة بأن القدس لم تكن إطلاقا عاصمة مملكة كبيرة كما تذكر المزاعم التوراتية. والتفسير بسيط: لم تكن مجموعة سكانية كبيرة لكي تنشأ مملكة عظيمة حسب قصة التوراة.
في كتاب لباحثان يهوديان بعنوان بدايات اسرائيل (ראשית ישראל)، نسف الباحثان وهما بروفسور يسرائيل فنكلشتاين من قسم علم الآثار بجامعة تل ابيب، ونيل سيلبرمان عالم آثار أمريكي يهودي، قصص التوراة الأساسية مثل الخروج من سيناء وعجائب موسى ورحلة احتلال يشوع بن نون لأرض الميعاد اذ تبين مثلا أنها آثار هسكوسية وليست يهودية، وكتبوا انه على الأغلب الملك سليمان وداوود هما اسطورتان، مؤكدين انه لا علاقة بين التوراة وارض إسرائيل. واوضحا ان عجائب موسى يعرفها كل بدوي في سيناء، عندما يريد الماء يضرب عصاته بجذر الصخرة، وطيور المن والسلوى هي طيور تهاجر من افريقيا تصل منهكة لشاطئ البحر حيت تستريح، وهو موسم صيد بدو سيناء للطيور قبل ان تواصل رحلتها لأوروبا.
تزوير التاريخ والآثار حسب النهج الإسرائيلي
باحثان إسرائيليان من الجامعة العبرية، وجدا حائطا كبيرا في “تل لخيش” أشعل من جديد النقاش بين الأثريين حول مصداقية قصص التوراة. حسب ما قاله الباحثين ان تاريخ الحائط يعود لأيام رحبعام الذي بعد وفاة والده الملك سليمان، طبعا حسب قصة التوراة (هناك من يعتبر سليمان نبيا) أعلن ابنه رحبعام نفسه ملكاً على بني إسرائيل. العديدون من علماء التاريخ والآثار اليهود يشككون او ينفون وجود الملك سليمان وانه مجرد اسطورة – مثلا كتاب “التوراة اليهودية مكشوفة على حقيقتها” لمؤلفان عالمان يهودي إسرائيلي وامريكي يشككان بوجود الملكين داوود وسليمان وانهما اساطير توراتية، تجدون الكتاب بالأنترنت (لكن تجاهلوا مقدمة المترجم الغبية)، لمن يعرف العبرية اسم الكتاب(ראשית ישראל)، كما اسلفت نسف الباحثان وهما بروفسور يسرائيل فنكلشتاين من قسم علم الآثار بجامعة تل ابيب، ونيل سيلبرمان عالم آثار أمريكي يهودي، قصص التوراة الأساسية مثل الخروج من سيناء وعجائب موسى ورحلة احتلال يشوع بن نون لأرض الميعاد اذ تبين مثلا أنها آثار هسكوسية وليست يهودية، وكتبوا انه على الأغلب الملك سليمان وداوود هما اسطورتان، مؤكدين انه لا علاقة بين التوراة وارض إسرائيل.
الرملة تجسيم لوجود الشعب الفلسطيني
في حدود العام 1980 وصلت الى مدينة الرملة في زيارة لعائلة زوجتي والوقت كان عشية ما يسمى “عيد الاستقلال”.
لفتت انتباهي اعلانات ضخمة تملأ شوارع الرملة ومداخلها تدعو السكان الى الاحتفال ب “تحرير” مدينة الرملة وعرب الرملة “المحررة” مدينتهم، الذين يسكنون في احياء مهملة تسمى ب “الغيتو العربي” يقرأون عن احتفالات تحرير مدينتهم.
لست هنا في باب الرد على “رواية التحرير” الصهيونية ولا تفاصيل النكبة الفلسطينية وحصة الرملة فيها وهي حصة كبيرة جدا. انما سأذهب الى تاريخ الرملة التي “حررت” والتي يشملها تشويه تاريخ الوطن الفلسطيني. في حالتنا قد تتحول الرملة الى هدية أخرى من ابراهيم الخليل لأبناء اسرائيل. لعل في استعراض التاريخ ادراك ان الغطرسة والاستعلاء هي نتيجة طبيعية للصوصية والتزوير.
كانت الرملة خلال فترة طويلة، خاصة في عهد الدولة الأموية عاصمة للولاية الفلسطينية.
بنى سليمان بن عبد الملك بن مروان مدينة الرملة عام (710ميلادية) يوم كان واليا على فلسطين في عهد أخيه الخليفة الأموي الوليد (705 – 715م) وواصل سليمان بناء المدينة بعد ان تولى الخلافة بعد الوليد، لكنه لم يعمر طويلا. اذ توفي بعد عامين ونصف العام (717م) لكنه حول الرملة الى عاصمة الولاية بدل مدينة اللد المحاذية لها.
جاء بعده عمر بن عبد العزيز الذي تابع ما بدأه سليمان من بناء مدينة الرملة، فبنى الجامع الأبيض، اذكر هذا الجامع منذ تلك الأيام ببنائه المتهالك، لكنه رمم فيما بعد. قام عمر بن عبد العزيز ببناء “العنزية” وهو مجمع لسقي المعزة، ما زال ذلك الموقع من اجمل آثار الرملة التاريخية ومن معالمها السياحية الجميلة. العنزية عبارة عن نبع وبركة ضخمة تحت الأرض، ينزلون اليها بدرج شديد الانحدار، بالإمكان ركب قارب صغير والتجديف به في ارجاء البركة.
كانت تنشل المياه من البركة لسقي القطيع، لكن المكان مهمل نسبيا وتاريخه مشوه.
هناك رواية اخرى تقول ان العنزية بالأصل هي كنيسة اسمها “سانتا هيلانه”، وهو من الأسماء التي يعرف بها الموقع حتى اليوم، بنتها حسب الرواية الملكة هيلانه ام الإمبراطور قسطنطين، التي يعتبر دخولها للمسيحية انطلاقة عظيمة للمسيحية حولت المسيحية الى دين امبراطورية قسطنطين وبداية لانتشار عالمي واسع للمسيحية. رُسمت هيلانه قديسة بسبب اعمالها في بناء عشرات الكنائس في الأماكن التاريخية للمسيحية ونشر المسيحية.
هناك رواية تقول ان العذراء مريم في طريقها الى القدس هربا من هيرودوس، استراحت في ذلك المكان، وان كنيسة سانتا هيلانه المذكورة غمرت ارضها مياه الينابيع بسبب انخفاضها وتحولت الى بركة ماء تحت ارضية، بني فوقها مسقى العنزية. بسبب اهمال دائرة الآثار للآثار العربية والاسلامية، لم يتم الكشف عن الكثير من سراديب وطرق وابنية الرملة التاريخية، ظلت مغلقة بالأتربة ولا يجري الكشف عنها، هذا عدا عشرات المقامات والأضرحة الدينية الاسلامية ذات القيمة التاريخية، أبرزها مقام النبي صالح ببرجه الشامخ ، البعض يقول ان اسمه النبي الصالح مع “ال” التعريف.
كان وقتها مهملا واشبه بمجمع للنفايات. اليوم نظف واستغلت الأرض لمشاريع بلدية .. وقد علمت ان مهندسة رملاوية تقوم بالعمل على كشف “اسرار” الرملة العربية ومعالمها التاريخية، لكن يبدو ان المهمة أكثر صعوبة من رغبة شخصية ودافع وطني.
من الجدير ذكره ان آخر رئيس لبلدية الرملة قبل النكبة هو الشيخ مصطفى الخيري، البعض يقول انه يعقوب القصيني، مهما كان الخلاف فالإثنان هما آخر رئيسان لبلدية الرملة العربية قبل ان “تحرر” – الأول مسلم والثاني مسيحي وتلك دلالة هامة لحياة التآخي والتفاهم التي سادت المجتمع الفلسطيني ومدينة الرملة العربية ، قبل الظواهر الطائفية المقلقة التي بدأت تنتشر اليوم وتزيد مجتمعنا تفسخا.
مدينة الرملة التي “حررت” على آخر زمان، كانت خلال تاريخها الطويل، مركزا للثورات العربية التحررية لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، منذ اواخر العصر الأموي وحتى الفتح الصليبي، أي لفترة تزيد عن اربعة قرون وهذه أهم معالم تلك الثورات.
اول ثورة يحدثنا عنها التاريخ كانت ثورة عام(743م) نصب خلالها الثوار أحد ابناء سليمان بن عبد الملك قائدا لهم وذلك حفظا منهم لعهده وقد بايعوا ابنه يزيد أميرا للمؤمنين، لكن الوليد الثالث خليفة دمشق استطاع القضاء على الثورة بمعارك دامية.
بعدها كانت ثورة المبرقع اليماني، الذي انتفض على المعتصم خليفة بغداد عام (841م) وقد هزمت جيوش الخلافة المبرقع وأسرته ونقلته الى سامراء العراق.
حين تولى الشيخ عيسى بن عبدالله الشيباني ولاية الرملة (فلسطين) قام بجهود مضنية لإقناع المعتمد الخليفة العباسي باستقلال فلسطين، لكن جهوده فشلت، فتمرد على المعتمد، الذي ارسل الجيوش وقضى على تمرد الشيباني ومحاولته اقامة دولة فلسطينية وطرده من بلاد الشام كلها.
في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي والنصف الأول من القرن الحادي عشر، جرت محاولات كثيرة قام بها آل جراح في سبيل استقلال فلسطين عن دولة الخلافة… وذلك من عاصمة ولاية فلسطين مدينة الرملة، لكن ثوراتهم وتمرداتهم المتواصلة فشلت في مواجهة جيوش الخلافة العباسية، رغم الفترة الطويلة التي صمدوا بها.
هذا التاريخ يبين ان الشعب الفلسطيني ليس وليد الصدفة، كما تحاول ان تصوره الرواية التاريخية الصهيونية، انما هو شعب جذوره عميقة بالتاريخ والنضال من أجل الاستقلال. له ثقافته وحضارته الخاصة والتي هي جزء من الثقافة والحضارة العربية، من الضروري ان نؤكد ان العرب في بلاد الشام، كانوا قبل الاسلام بعشرة الاف سنة.
قبل ان تقرأوا اهم ما جاء في مقال هرتسوغ، بعض علماء الآثار اليهود يدعون ان كشف هذا الحائط يثبت ان مملكة يهودا اتسعت وتحولت الى مملكة هامة أكبر مما كانوا يعتقدون. علماء آثار انتقدوا هذا الادعاء وقالوا انه لم يُثبت ان ما وجد له رابط بمملكة يهودا. حسب علماء آثار آخرين يعود هذا الحائط الى القرن العاشر قبل الميلاد. أي ان الحديث هو عن الفترة الكنعانية، حسب التوراة أيضا. لنتركهم يتعاركون ونواصل تسجيل مواقف علماء لا يتاجرون بعلمهم!!
بلدة تل لخيش الكنعانية كانت بلدة متطورة وكبيرة وهامة في القرن الثاني عشر قبل الميلاد وقد خربت واختفت من التاريخ.
السؤال هل أصبحت الحضارة والتاريخ والمباني الكنعانية؟ مثلا مدينة القدس:
أُطلِق على القدس اسم يبوس، وهو نسبة إلى اليبوسيين الذين اعتُبِروا البُناة الأوائل لمدينة القدس، أطلق الكنعانيون الذين سكنوا مدينة القدس قبل العبرانيين اسم أورسالم، ويُقال إنَّ هذا الاسم بابلي الأصل، وهو مشتق من اللغة الآرامية القديمة، ثمّ تحوَّر من الكنعانية إلى بيروساليم باليونانية وإلى أورشاليم بالعبريّة.
متى ينشط علماء آثار فلسطينيين وعرب لمواجهة الأكاذيب التي تروج، طبعا مع الاحترام للعلماء اليهود الذين يرفضون ان يحولوا علمهم وخبراتهم الى تجارة سياسية في خدمة الاحتلال والتنكر لوجود شعب كنعاني فلسطيني جذوره ضاربة بأعماق فلسطين؟