كورونا الازمة السياسية
الكاتب : نبيل فهمي
لا يخفى على أحدٍ أنّ ظهور فيروس كورونا الجديد أثار قلقاً بالغاً عالمياً، ويحمل في طياته تداعيات عديدة، لم يُحدد مداها بعدُ، وإن كان هناك إجماعٌ على أنها خطيرة على صحة الإنسان، وقد يكون لها انعكاسات سلبية تهدد نمط حياتنا في القرن الـ21.
وأوّل أسباب الاضطراب والقلق ليس في ظهور الفيروس فحسب، فسبق أن تعرّض العالم للفيروسات، وسيواجه غيرها مستقبلاً، إنما مصدر القلق يعود إلى أن الفيروس الجديد يطرح معادلة غير واضحة المعالم، ولم يُستعدّ لها، وأدّى إلى الارتباك وعدم الشفافية في التعامل الأوليّ مع ظهوره.
وتفاقم القلقُ مع التنامي السريع في عدد المرضى، وانتشاره سريعاً في عددٍ غير قليل من الدول عبر العالم، ما كان له تداعيات عدّة، شملت ضمن أمور أخرى، وضْع قيود على استقبال الزائرين من أو السفر إلى مناطق محددة بالصين، ثمّ من دول أخرى بعد ذلك، سعياً لوقف انتشار الفيروس وتجنّب تداعياته.
تحديات وأحداث مستجدة، وتردد حكومي في التعامل مع الأحداث، وسرعة انتقال الأحداث والتحديات عبر الحدود والأجواء والبحار، وردود الفعل نحو الانعزالية، هي السمات والتحديات نفسها التي نشهدها سياسياً واقتصادياً، أو ينادي بها البعض في عصر العولمة، كان ذلك في التعامل الحكومي، أو في ظهور تيارات شعبوية تميل تجاه الانعزالية في دول صغرى وكبرى، ديمقراطية ومركزية القرار.
فهل يمر العالم بمرحلة الـ”كورونا السياسية”؟
كل الدلائل تشير إلى ذلك، فالنظام الدولي المعاصر وُضِع في أعقاب الحرب العالمية الثانية، على أساس توازن قوة بين الحلف الأطلنطي الغربي وحلف وارسو الشرقي، مع وجود مجموعة ثالثة مكملة المشهد، وهي دول عدم الانحياز.
وصاحب ذلك وضع أهم المواثيق الدولية، وأوّلها ميثاق الأمم المتحدة، ثم إقرار عدد من الوثائق الاقتصادية في بوتقة Bretton Woods، التي أُسس في سياقها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فضلاً عن مجموعة وثائق ومعاهدات لترتيب الأوضاع الدولية، منها على سبيل المثال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقيات للحدّ من التسلّح بمعاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية… إلخ.
وحددت تلك الوثائق والمعاهدات مع توازن القوة السياسية الذي كان قائماً حينذاك أساس ودفة الحركة للنظام الدولي المعاصر على مدى أكثر من نصف قرن، وظل مستقراً وقائماً بصفة عامة رغم تعرضه لتحديات مختلفة في ظل الشد والجذب بين الحِلفين، أو مع الدول النامية غير المنحازة، التي كانت تزداد عدداً نتيجة الحصول المزيد منها على الاستقلال من الاستعمار الأوروبي القديم، ولكل منها تطلعاته ومواقفه.
لم تكن الأوضاع عادلة في القرن الماضي، وشهدت تجاوزات عديدة للدول الكبرى على حقوق غيرها، إنما حافظ التنافس الدولي على الاستقرار بصفة عامة، حتى نهاية الثمانينيات وانهيار الاتحاد السوفياتي ومعه حلف وارسو الذي كان يرأسه، فاختلّ التوازن الذي كان يوفّر بعض الضوابط الرادعة تصرفات دول الحِلفين.
فظل القانون الدولي وحده ركيزة استقرار المنظومة الدولية، وتعرّض لمزيدٍ من التحديات والمخالفات مع تنامي استعداد دول مختلفة تجاوزه وتجاهله، خصوصاً تلك التي كانت تحظى بتفوّق أمني وسياسي واقتصادي على المستويين الدولي أو الإقليمي، ومن ضمن هذه المخالفات الغزو الأميركي للعراق في 2003، والإبادة الجماعية في رواندا، والحرب في سوريا وليبيا، وكثير من الأمثلة الأخرى التي أصبحت تميّز العقود القليلة الماضية.
ومع تنامي معدلات وسرعة عجلة العولمة الدولية، مدفوعة بتطورات تكنولوجية هائلة في مجال الاتصالات ونقل المعلومات، استجدّت ظروف وإنجازات وتحديات بين الحكومات والشعوب بين لحظة وأخرى، وحدث تواصلٌ سريعٌ غير محكوم للشعوب والسلع، وفّر فرصاً هائلة، وكذلك الكثير من المشكلات والتحديات.
ومن ضمن الدوافع الرئيسة للعولمة السياسات النيوليبرالية، مثل التجارة الحرة والخصخصة، التي كان مطلوباً من البلاد النامية تطبيقها سريعاً بصرف النظر عن ظروفها وقدراتها التنافسية، ومع ذلك تخوّف البعض في الدول المتقدمة من منافسة الأسواق الأكثر كفاءة والعمالة الأقل تكلفة، فظهرت تيارات انعزالية ويمينية متعددة في الغرب والشرق والشمال والجنوب، وتنامى التوجه الشعبي والوطني نحو التركيز على المصالح الشخصية على حساب المجتمعية والوطنية وعلى حساب الإقليمية، والإقليمية على حساب المصالح الدولية والعالمية.
تكمن المشكلة في حقيقة أنّ معدلات التغير في عصر العولمة جاءت بالغة السرعة، وشكّلت تحدياً حقيقياً للاستقرار والهوية التقليدية، فضلاً عن أن الجانب الاقتصادي للعولمة جرى تطبيقه من دون إيلاء أهمية كبيرة لاختلاف الظروف والاعتبارات الخاصة للدول الأخرى الأقل نمواً، وكذلك لتباين الثقافات بين المجتمعات.
وما شهدناه من ردود فعل تلقائية مع الفيروس الجديد هو نفس ما شهدناه سياسياً واقتصادياً خلال العقود الماضية أمام تحديات العولمة، وأفضل سُبل التعامل مع هذا التحدي الجديد طبياً يشبه إلى درجة كبيرة السُّبل الصحيحة للتعامل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مع تحديات عصر العولمة، ألا وهي التعاون وفقاً لقواعد دولية ومتفق عليها، إذ تتطلب حالات الأزمات الصحية والطوارئ الشفافية بين الحكومات والدول والمجتمعات، والتعاون والتعامل وفقاً لبروتوكولات وقواعد وقوانين دولية في سياق النظام الدولي المتعدد الأطراف الذي نعيش فيه، منها احترام كل الدول القواعد الصحية الدولية، وما يخص فيروس كورونا يفترض التعاون في تطبيق ثلاث مبادرات، لدعم قدرات الدول في الكشف عن أحداث الصحة العامة وتقييمها والإبلاغ عنها، ومنح منظمة الصحة العالمية الدور التنسيقي لبناء هذه القدرة، واتخاذ تدابير محددة في وسائل الانتقال مثل الموانئ والمطارات والمعابر البرية، للحدّ من انتشار المخاطر الصحية، من دون اللجوء إلى قيود التجارة والسفر غير الضرورية والعقابية.
وهناك أيضاً دروس من التعامل مع فيروس كورونا الجديد يمكن الاستفادة منها في تعاملاتنا السياسية، وأهمها:
1- أنّ التطور التكنولوجي والعولمة واعتبارات اقتصادات السوق ستظل جميعاً جزءاً من المعادلة المجتمعية المستقبلية، بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات.
2- أننا نعيش في عالم متكامل، ونعتمد على بعضنا بعضاً، ومن ثمّ فالتعاون ضرورة، والانعزالية والقرارات الأحادية حلقة محكومة بالفشل على المدى الطويل، والأفضل هو وضع أسس عادلة للتعامل الدولي الحكومي والمجتمعي، واحترامها من قِبل القوي قبل الضعيف، بما في ذلك تبادل المعلومات السريع وبأكبر قدر ممكن.
3- أنّ التعددية ووضع قواعد للعمل الوقائي الجماعي أفضل وأأمن على المدى البعيد والاستراتيجي، وأن تغليب الحاجات الآنية على حساب المصلحة الطويلة الأجل ليس حلاً، بل ينقلنا حتماً من مشكلة إلى أخرى.
4- أنّ مواجهة المشكلات الطارئة ستستدعي بين الحين والآخر اتخاذ إجراءات احترازية من قِبل الدول والحكومات، إنما يجب أن تكون حسب الحاجة ولمدد محددة ومحدودة.
5- أهمية أن تكون هناك سلطات وأجهزة حكومية قوية وفاعلة، علماً أن قوتها ونجاحها سيكون مرهوناً على نجاحها في توعية شعوبها والتواصل معهم بمصداقية.
6- ضرورة احترام القانون الدولي والقواعد العامة والحقوق المتساوية للشعوب حفاظاً على الاستقرار الدولي من تقلبات توازن القوة والتحديات الدولية المستجدة، وذلك لضمان التزام الدول تعهداتها.
7- أنّ التعامل مع القضايا في إطار دولي وبشكل مسبق ووقائي واستراتيجي ليس واجباً، إنما ضرورة، ومنها على سبيل المثال التغير المناخي، وندرة كميات المياه العذبة المتاحة، والتطرف والإرهاب، وعسكرة المفاهيم الأمنية، والإفراط في استخدام القوة لحل المنازعات، وتوظيف التكنولوجيا الحديثة لتطوير القدرات العسكرية، بما في ذلك الفضاء الخارجي.