“الساسة يلوكون عبارة الخطوط الحمراء التي غالباً تنتهي كتهديدات فارغة”
الكاتب : سعد بن طفلة العجمي
تتكرر عبارة “الخطوط الحمراء” في لغة السياسة، وتعني الحد الأقصى المسموح به من فعل ما، قبل أن يكون هناك رد لذلك الفعل، لوقفه أو تحجيمه. واستخدام هذه العبارة غالباً ما يحمل نبرة التهديد، بل إن رسم الخطوط الحمراء تعني التهديد، قد تكون تهديدات فارغة مثل الخطوط الحمراء للرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، التي رسمها للرئيس السوري بشار الأسد بعدم استخدام أسلحة الدمار الشامل ضد شعبه، فاستخدمها وتلاشت خطوط أوباما مع الرياح، أو تهديدات الأسد نفسه وحليفته إيران بأنه سيختار الوقت والمكان المناسبين للرد على القصف المتكرر لإسرائيل لقواته وقوات الحرس الثوري وقتما يشاء، ومضى نصف قرن تقريباً لم يطلق بها الأسد ولا حلفاؤه طلقة من الجولان باتجاه إسرائيل.
لكن الساسة يلوكون عبارة الخطوط الحمراء دوما كتهديدات غالباً ما تنتهي “بفاشوش” كما يقول المصريون.
جميلة كلمة الخط، هذه الكلمة المشتقة من خطّط بالعربية، ومنها الخطة، أي الاستراتيجية والطريقة المرسومة لتنفيذ أمر ما، كالخطط الخمسية، التي ترسمها حكوماتنا العربية الفريدة، صحيح بأنها تعلن خُططاً، ولكن في الغالب دونما تنفيذ، إلا أن المهم هو الخطط التي ترسمها وزارات التخطيط بحكوماتنا. ولعل تشكيل وزارة للتخطيط يعني أن الخطة سترسم، لكن التنفيذ شيء آخر مختلف تماماً.
ولعل عبارة “خيطي بيطي” التي تستخدم بالخليج هي كناية عن عدم البراعة في تنفيذ شيء أو خطة ما، فيقال بأن هذا الأمر “خيطي بيطي”، أي أنه كلام فارغ بلا خطة أو مخطط، تماما كخططنا الخمسية في معظم بلادنا العربية.
والخط هو الكتابة، وأجمل الخطوط هو خط اللغة العربية، حيث تعددت خطوطها فمنها النسخ والرقعة والديواني والسلطاني والكوفي والفارسي، ولا أظن نظام خط وكتابة يمكن أن يتلوى ويتشكّل بشكل جمالي مثل خط اللغة العربية.
كأستاذ للغويات والترجمة من الإنجليزية إلى العربية وبالعكس، أجد صعوبة في قراءة خط بعض طلابي. طلاسم يصعب فكها، وخطوط معوجة وتطلع وتنزل بلا هدف لغوي. لا ألوم الطلبة، فالكتابة باليد لم تعد دارجة كثيراً بين بني البشر بأي مكان بالعالم، فالعالم اليوم يضغط على شاشات بها أحرف، أو أزرار ترمز للحرف فتخرج مطبوعة أو مرئية على شاشة لقراءتها. حين اخترع الإنسان الكتابة قبل آلاف السنين (قيل البابليون وقيل الصينيون)، كان هناك حاجة للكتابة، وانتفت الحاجة اليوم في ظل الأزرار والأشكال على الأجهزة الذكية.
ذهل طلبتي حين قلت لهم بأن تعلم الخط العربي كان مادة في أيامنا! نعم كان هناك حصة في مناهج جيلي ومن سبقني اسمها حصة “الخط” ويقصد به الخط العربي.
“اقضب الخط هذا”، عبارة توصيف كان الناس يتبادلونها لوصف وجهتهم، وقد قضى السيد “جوجل ماب” على هذا الوصف، فجيل اليوم الرقمي سيضل طريق بيته إن فرغت بطارية الهاتف المحمول معه!
“ويكد الخط” كانت عبارة يتداولها أصحاب سيارات الأجرة والشاحنات والحافلات الصغيرة، كان أشهر سواقي الجهراء “يكدّون خط سفوان”، ويلفظها بعضهم أحياناً بتسكين السين وضم الفاء، وهو المنفذ البري بين الكويت والعراق، ولعله أكثر المنافذ إغلاقاً وفتحاً بين دولتين جارتين عربيتين مسلمتين. أغلقه عبد الكريم قاسم عام 1961، وصدام حسين عام 1973 بعد حادثة الصامتة الحدودية، ثم أزاله صدام حسين عام 1990 بغزو الكويت، وأعيد فتحه بعد سقوط نظام صدام، لكن “كورونا” أغلقته قبل أيام.
“صاحبي عيّا يجاوب تيلفونه
خطهم مشغول مدري وش علامه
من قصائد الغزل للشاعر الشعبي الكويتي المعروف سليمان الهويدي، ولكم كررناها فتياناً مراهقين، والخط هنا هو هاتف التلفون حين مر التواصل مع الحبيب بمرحلة الاتصال بالخطوط الأرضية الهاتفية قبل أن يسحقها الجوال ووسائل التواصل الحديثة من انستغرام وواتساب وفسيبوك وفيستايم وغيرها الكثير.
حين نقول بأن فلاناً يمشي على “خط مستقيم”، فتلك كناية عن استقامة سلوكه، على عكس من “خطه أعوج” والكناية هنا واضحة.
والخط عند بادية الخليج هو الرسالة المكتوبة، و”فلان يفك الخط” يعني أنه يستطيع القراءة-ربما دون الكتابة، والدي -رحمه الله “فك الخط” دون دراسة ودون كتابة، جعلوه “تنديلا” (مسئول عمال) بشركات النفط لأنه كان يكتب أسماء العمال ويعطيهم أجرتهم اليومية.
كان كبار السن يطلبون مني كتابة “خط” لمن يريدون مراسلته لأني كنت “أفك الخط”، أي أجيد الكتابة والقراءة منذ كنت في الابتدائية المبكرة.
لا أعرف غير السودانيين من العرب لهجةً من يقول “خُطْ” بضم الخاء بمعنى ضع، والتي هي حُط بمعظم اللهجات العربية، فهل لذلك مغزى لدى الشعب السوداني الجميل؟ وهل يقصدون أن الخَط والحط واحد؟ وبأنه لا فرق بين الخاء والحاء؟
و”المخطط” كلمة تتكاثر وتنتشر انتشاراً واسعاً في لغة “المؤامرة”، فـ”كورونا” مخطط، وداعش مخطط، وغزو صدام للكويت- التي تحتفل هذه الأيام بذكرى تحريرها- أيضاً مخطط، وقول السفيرة الأميركية السابقة بالكويت ديبرا جونز بأن الكويت ستنتهي عام 2020 أيضاً مخطط. وكل شيء في هذه الحياة مخطط من قبل مجموعة من الأشرار في هذا العالم لا هم لهم سوى التآمر وحبك المخطط تلو المخطط ضد أمتنا العتيدة العنيدة.
على فكرة، السفيرة جونز لم تقل بأن الكويت ستنتهي عام 2020 ونفت ذلك في أكثر من موقع، لكن بلا فائدة، فحتى هذا النفي يعتبر ضمن “المخطط”.
تقارب كلمة “الخيط” لفظاً ومعنى لكلمة الخط، لكن الخيوط ألوان، والخطوط الحمراء لا لون لها.