تعزيز قيم التعليم العالي في العراق
أوربا أنموذج
اًتعزيز قيم التعليم العالي في العراق – لويس إقليمس
لا يمكن بناءُ الأوطان من دون وجود قاعدة تربوية تعليمية حقيقية وعلمية ورصينة.ففي حين يعتبر العديدُ من الساسة الأقحاح الناضجين علمًا وفكرًا وتخطيطًا، وفي ذات الخط أيضًا ما يعتقد به لفيفٌ من خبراء تنمية الشعوب وتطورها، بأنّ كلفة الجهل أكبر بكثيرٍ ممّا يتم إنفاقُه على أدوات التربية والتعليم في عددٍ من بلدان العالم المتقدم (أوربا على سبيل المثال)، إلاّ أنّ عجلة العلوم في بلدنا الجريح ماتزالُ خارج هذه المعايير في التقييم والتقويم وتعلّم العبر والدروس.فالواضح أنّ ما نراهُ بأمّ أعيننا ونشهدُه في واقعنا التربوي والتعليمي من تراجع في القدرات التربوية والتعليمية بعد انتشار ظاهرة الأمّية وبلوغها حدودًا مخيفة بعد أن كان المثل يُضرب بواقع العراق المتقدم في هذا المضمار في سبعينيات القرن الماضي وخلّوه من هذه الآفة القاتلة، قد أصبح واقعًا مأساويًا يُنذرُ بشؤمٍ قاتلٍ للأجيال القادمة. ومنها ما شابههُ بما يواجهُه واقعُ التعليم العالي بالذات أيضًا من تخلّف في تحقيق الرصانة العلمية ومن عدم التزام بالمعايير الدولية التي تحفظ نزاهة هذا القطاع الحيوي المهمّ وتمنع عنه الانجراف نحو الإسفاف في أدواته سنةً بعد أخرى بسبب استشراء ظاهرة بيع وشراء الشهادات المزوّرة وتفاقم أدوات التخبط واختلاط الأمزجة غير المتناسقة التي تدير دفة التربية والتعليم على السواء منذ دخول البلاد والعباد تحت مظلة الغازي الأمريكي بالتعاون مع أدواته التي تديره علنًا أو من خاف الكواليس. وتلك مصيبة كبرى أحاقت بواقعنا التعليمي والتربوي وجعلته في ذيل قائمة أمم العالم بعد أن كانت جامعاتُ العراق تحظى بقصب السبق في تسلسلها العالمي عندما كانت منارًا للتعليم في المنطقة وعلامة بارزة للفخر والاعتزاز لمَن حالفه الحظ واستقى من عطر أروقتها الوارفة والنهل من علوم أساتذتها الأجلاء الذين نالوا شهرة واسعة في الأوساط العلمية والتربوية على غيرهم من نظرائهم في المنطقة والعالم لسنوات طوال.وأنا أتصفح إحدى المنشورات الأوربية، قرأتُ تقريرًا عن واقع التعليم العالي في دول الاتحاد الأوربي، واطلعتُ على الجهود المبذولة في رصد كلّ أدواته ومعايرة حيثياته وصولاً إلى معالجة ما يعتريه من تحديات ليست بالهيّنة، وما يحتاجُه من تحديثات في ضوء المستجدات الدولية التي تفرض كيانَها ووزرها في ضوء مجمل هذه التحديات المستجدة ومنها موضوع التحوّل الرقمي والطاقة المتجددة وما يعتبرُه الغربيون شيخوخةً ديمغرافية ألقت بظلالها على الواقع الاقتصادي بسبب ما أحدثته من تداعيات وإخفاقات عالمية في مواجهة الأزمة الصحية العالمية الأخيرة. وحبذا لو بادرت الجهات العلمية في العراق بتكثيف جهودها وصولاً لأشكالٍ صحيحة من التعاون الدولي مع الجهات ذات العلاقة من أجل نقل مثل هذه الخبرات والاستراتيجيات المتاحة إلى الواقع التربوي والتعليمي المتهالك في البلاد بسبب الصراعات التي تكتنف المشهد السياسي والتي أضاعت هذا القطاع في متاهات غير جديرة به بكلّ المقاييس والمعايير.من هنا، فقد أدركتْ مؤسسات التعليم العالي في دول الاتحاد الأوربي مدى أهمية تعزيز التعاون الدولي في مجمل هذه المجالات، ومنها طبعًا وعلى سبيل المثال لا الحصر ما يمكن أن تساهم به الجامعات الأوربية الرصينة في البحث والفكر والمتابعة والابتكار وصولاً إلى حاضنة غربية صحية عبر خلق وتشكيل اقتصادات مستدامة ومرنة للحدّ من التداعيات المتعاقبة التي نجحت في خلق أزمات اجتماعية واقتصادية كان لها اثرُها الواضح في التأثير في المجتمعات الدولية عمومًا. أملي أن يجد هذا القطّاع المتراجع في بلادنا ما يستحقه من دراسة ومراجعة وتقييم وتقويم على حدّ سواء بالاستفادة من تجارب الغير ومن هذه السطور الملخصة التي أدركها الاتحاد الأوربي واتخذها أهدافًا قابلة التنفيذ والتطبيق على أرض الواقع.جسور للتعاون الدوليفي هذا الصدد، تواصلُ دول الاتحاد الأوربي عملَها بين الفينة والأخرى بطرح مبادرات مستجدّة تتناسب مع التحديات التي يفرضها واقع حال التعليم العالي في عمومياته وشكلياته من خلال أشكال الاستراتيجيات التي تصلح لعموم دول الاتحاد وتساهم في بناء جسورٍ للتعاون الفعال بشأن موضوعة هذا القطاع الحيوي وأدواته. ومن ضمن هذه المبادرات “الحرص على تفعيل دور الجامعات وجعلها مؤسسات شاملة قادرة على الإيفاء بدورها في مجتمعاتها المختلفة وفي تطورها وتعزيز نافذة الانفتاح والديمقراطية والمساواة فيها قدر المستطاع عندما يتعلّق الأمر بمسالة النمو المستدام وريادة الأعمال والاندماج والتوظيف”، على حدّ قول “مارجريتيس شيناس”، نائبة الرئيس المسؤولة عن نافذة الترويج لطريقة الحياة الأوربية في الاتحاد. ولعلَّ من جملة ما تهدفُ إليه هذه المبادرة أيضًا، “السعي لدفع أدوات التعاون الدولي في واقع التعليم العالي إلى ابعد ما هو ممكن وذلك من خلال مشاركة القيم المشتركة وتطوير موضوعة الانتقال بين المؤسسات التعليمية وتوسيع نطاق العمل والمؤازرة والتضامن ليأخذ هذا القطاع مداه وأبعاده الأوربية الحقيقية في مجال التعليم العالي”. ولكي يأخذ هذا القطّاع الشكل الصحيح لهذا المدى ولدوره الحقيقي، لا بدّ من توفر المقوّمات اللازمة لجعله تعليمًا أوربيًا صريحًا وصائبًا بعمق تاريخ هذه القارة وحضارتها وتفوّقها العلمي على مدى قرون من خلال ما تعلمته واقترنت به واستفادت منه مجتمعةً أو من غيرها من الشعوب. ويقع هذا الطموح من ضمن ما ترتقبه دول الاتحاد الأوربي من توفير البيئة الأفضل لعمل وإبداع الجامعات والباحثين والخبراء فيها بجعلها جامعات حديثة متعددة الجنسيات سهلة التنقل والانتقال منها وإليها. وتعتقد “ماريا غابريال”، مفوضة الابتكار والبحث والثقافة والتعليم والشباب في دول الاتحاد، بإمكانية “الجمع بين التعليم والبحث والابتكار من اجل تحقيق الهدف الأسمى خدمة للمجتمع الأوربي والدولي على السواء”.استراتيجية أوربية تفيد مصادر مقربة من قطاع التعليم العالي في دول الاتحاد الأوربي، بوجود مشروع رائد لهذا الأخير بتبنّي ميزانية طموحة لغاية منتصف 2024 عبر تقديم الدعم اللازم والمساهمات المالية الضرورية لما يربو على 60 تحالفًا أو تجمعًا جامعيًا يشمل ما يزيد عن 500 جامعة في عموم أوربا بغية بلوغ طموحاتها وأهدافها بحصول نقلة نوعية في قطاع التعليم العالي بالذات. ففي عموم أوربا يُحصى ما يزيد عن 5000 مؤسسة تعليمية جامعية تحتضن ما يربو على 7,5 مليون طالب جامعي وحوالي 1,35 مليون تدريسي بمختلف الدرجات العلمية وما يصل إلى 1,17 مليون باحث في مختلف التخصصات العلمية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من القطاعات التعليمية المعنية. وتهدف هذه الاستراتيجية لدعم عموم هذه المؤسسات التعليمية وتمكينها من التكيف مع الظروف العالمية المتغيرة وازدهار دورها وعملها في إنعاش أوروبا وتعافيها من أزماتها المحيطة بها، شأنها في ذلك شأن غيرها من بلدان العالم.يتطرق تقريرٌ للاتحاد الأوربي بشأن تطوير المؤسسات الجامعية إلى جملة من الخطوات التي من شأنها تعزيز التعليم العالي في عموم الاتحاد، ومنها:– تعزيز البعد الأوربي للتعليم العالي والبحث العلمي بمختلف أهدافه.– اعتماد مكانة الجامعات كمواقع إشعاع لواقع وطريقة الحياة الأوربية بفضل الدعم المقدم في تسهيل إجراءات الأمور البحثية والمهنية ضمن الحرم أو التجمّع الجامعي وبما يتماهى وينسجم مع جودة المهارات والتنوع فيها وشموليتها وكذا في سائر الممارسات الديمقراطية والحقوق الأساسية والقيم الأكاديمية.– تمكين الجامعات من العمل على إحداث نقلة نوعية في مجال التحوّل البيئي والرقمي بحسب الظروف العالمية التي تفرض مثل هذا الواقع والهدف.– تعزيز عمل الجامعات بكونها من المحركات الأساسية لقيادة الاتحاد الأوروبي وتنشيط دورها على المشهد العالمي.إن مثل هذا الفعل المقرون بالطموح الأعلى لبلوغ الأهداف المشار إليها في هذه المبادرة تتطلب مدّ وبناء جسور لتعاون أوربي مؤثر وفعّال في مجال التعليم العالي والبحث العلمي. كما أنه يهدف أيضًا إلى تمكين مختلف مؤسسات التعليم العالي للتعاون الأوثق من أجل تنفيذ سائر البرامج التطويرية الطموحة مع نظيراتها في العالم والمشاركة الفاعلة في أنشطة مشتركة عبر الأدوات المتاحة. وهذا ممّا سيسهّل نقل المعارف وتداول العلوم وإقامة روابط وثيقة بين الواقع التربوي والتعليمي وأدوات البحث والمجتمعات الصناعية المبتكرة التي تجتاح العالم وتحتاج لمثل هذا التعاون الوثيق بالاستفادة طبعًا من شكل المهارات المتوفرة وتيسيرها لطالبيها استجابةً للمتطلبات الاقتصادية والمجتمعية التي يحتاجها الإنسان في دورة حياته اليومية.أربع مبادرات من أجل تعزيز البعد الأوربي للتعليم العاليطرحت اللجنة ذات العلاقة بقطاع التعليم العالي في عموم أوربا، مبادرات أربع بغية تعزيز البعد الأوربي للتعليم العالي لغاية 2024. موجزُها في السطور التالية:– الوصول إلى ما مجموعه 60 تحالفًا أو تجمّعًا جامعيًا لغاية منتصف 2024 محتضنًا أكثر من 500 مؤسسة تعليمية وبحثية مختلفة، ودعمها بميزانية طموحة تبلغ 1,1 مليار يورو للفترة من 2021-2027. والهدف هو “تطوير وإقامة تعاون هيكلي مستدام ومنهجي طويل الأمد في مجالات التربية والتعليم العالي والبحث العلمي ومجال الابتكار من خلال إنشاء تجمعات جامعية أوربية مشتركة يستطيع الطلبة والباحثون وكوادرُها من خلالها وعبرها بالاستفادة من سهولة التنقل والانتقال والتمتع بنوعٍ مستدام من الحركة وخلق معارف جديدة عابرة للحدود ومن دون تحديد أو تقييد.– العمل معًا على تطوير الوضع القانوني للتحالفات أو التجمّعات الجامعية بين مؤسسات التعليمالعالي بهدف تمكين هذه الأخيرة من تعميم ومشاركة مواردها وقدراتها وقابلياتها بمساعدة مشروع “إيراسموس” بدءً من عام 2022. ومشروع “إيراسموس”، الرائد في مجال التعليم العالي الأوربي الذي يستقطب سنويًا أعدادًا جديدة من الطلبة، كان قد تم إطلاقُه في عام 1987 ويهدف لاستفادة الطلبة الجامعيين من محفزات التنقل الأوربي وتعزيز أبعاده العليا.– العمل على تقرير شهادة أوربية مشتركة تعترف وتقرّ بقيمة الخبرات العالمية المكتسبة خلال سنوات الدراسة الجامعية والسعي لتقليل الإجراءات الإدارية التي تعيق عمل البرامج المشتركة.– تطوير مبادرة بطاقة الطالب الأوربية من خلال اعتماد بطاقة تعريفية أوربية موحدة لجميع الطلبة الجامعيين المنتقلين للسنة الدراسية 2022 ومنها لجميع الجامعيين في أوربا في العام 2024 من أجل تسهيل عملية التنقل في جميع الاتجاهات والمستويات.الخطوات الطموحةتحدث الكثيرون عن الظاهرة المخيفة في التراجع الحاصل في مسألة التربية والتعليم العالي في عراقنا المهزوز منذ الغزو الأمريكي في 2003 وما شهده هذا القطاع من تدخلات سافرة غريبة وعجيبة في شؤونه من قبل ادعياء العلم وفارضي مصالح ومكاسب ومتسلّقي مناصب وحاصلي درجات وشهادات لا يستحقونها. وفي ضوء إرادات التغاضي عمّا جرى ويجري حينًا، وصيحات الاستنكار والتنديد وخيبات الأمل حينًا آخر، وفقدان الإرادة الوطنية في تعديل مسار العملية التربوية والتعليمية برمتها في البلاد، أضحى من الضرورة بمكان أن يجلب شكل هذا التراخي والتراجع والتخلّف عن الركب العالمي في هذا القطاع الحيوي المهمّ انظارَ السلطة القادمة والوزارات المعنية بإدارة هذا القطاع كي تضع في حسبانها ما اقترفته السلطات السابقة من جرائم وتعدّيات ضد تنميته ووضع العراقيل ضدّ تطويره بهدف انتشاله من الهوّة السحيقة التي سقط فيها متراجعًا عن الركب الإقليمي والعالمي بدرجات كبيرة.وطالما كان السببُ معروفًا للجميع بسبب تفاقم الرشى والفساد وأشكال الابتزاز وشراء الذمم والمتاجرة بالشهادات، أو سواءً بالفشل في تهيئة المستلزمات التربوية والتعليمية أو في إعداد الكوادر التي تستحقها المؤسسات التربوية والتعليمية والبحثية أو في العمل على تهجير واستبعاد الكفاءات بسبب تنامي وسطوة أصحاب الولاءات والانتماءات غير الوطنية على مكامن ومواقع وأعمدة هذا القطاع، لذا تستدعي الإرادة الوطنية الصادقة، إن وُجدتْ، أن تشحذ الهمم في تقييم القائم الفاسد وإصلاحه، وتقويم المعوجّ الخارج عن سرب الحضارة والثقافة وإبعاده ومحاسبته في حالة عدم رضوخه للبعد الوطني التربوي والتعليمي الجامع للجميع. فلطالما أقرّت الدول المتقدمة والتي تحترم العلم والعلماء أنّ طريق العلم وأدواته من أفضل أبواب التنمية والتقدم والرفاه في تعزيز حسن العيش والسلم الأهلي وارتقاءً بالإنسان إلى مقام الإنسانية. وهذا هو أفضل الطرق لتفادي نكبة كبرى في هذا القطاع الحيوي والأساسي في إعادة بناء الوطن وانتشاله من براثن الدخلاء عنه ممّن لا يريدون له ولأهله التقدم ورفاهة العيش والالتحاق مجدّدًا بسرب الدول المتقدمة التي تحترم شعوبها ومواطنيها وتحفظ سيادتها وشكل هيبتها وسط دول وشعوب العالم.وفي الأخير، لا بدّ من تعاضد جميع الأطراف الحريصة على عودة البلاد إلى موقعها الطبيعي إقليميًا وعربيًا وعالميًا بالبحث عن استراتيجيات جديدة أثبتت جدارتها عالميًا، كما هي في واقع حال بلدان الاتحاد الأوربي، من أجل العمل على ترسيخ الأهداف الواقعية التي تستطيع النهوض بهذا القطاع واستقطاب القدرات والكفاءات وتسهيل الاجراءات اللازمة لنجاحه. ومنها أسلوب التوأمة مع الجامعات الرصينة بعيدًا عن شكل الأطر السياحية والمنافع الفئوية والشخصية التي اتخذتها أو تفكر باتخاذها بعض الجهات لدى التفكير بمثل هذه المبادرات. وهذا ممّا سيساهم شكلاً ومضمونًا في استقطاب الكفاءات والعقول الوطنية المهاجرة أيضًا من التي غادرت الوطن قسرًا ومكرهةً بفعل الظروف غير الطبيعية التي مرّت على البلاد وأهلها والتي احتوتها حكومات دول الاغتراب للاستفادة من خبراتها وكفاءاتها المهنية والعلمية. نأمل أن تحظى مبادرات مستقبلية من أجل خلق جسورٍ للتعاون والشراكة العلمية الصحيحة مع الجهات العالمية ذات العلاقة بأهمية تستحقها الأهداف العليا لها، وذلك من أجل إعادة سمعة هذا القطاع بعد تشذيبه وتنقيته من العناصر المغرضة غير الكفؤة والدخيلة عليه بفعل سطوة أحزاب السلطة وتقاسم المناصب والمنافع من باب المحاصصة والاستحقاق السياسي المقيت. وهذا لن يتحقق إلاّ باستبعاد هذا القطاع من شكل المشهد السياسي المشوّش ومن تبعات مقاسمة السلطات وفق مبدأ “هذا لي وذاكَ لكَ”.