تقرير: غموض يلف مصير النفط مقابل الطبابة بين بغداد وبيروت وجدل حول الزيارة الملغاة
كان يفترض أن تزور الحكومة اللبنانية برئيسها وعدد من وزرائها العراق، يومي السبت والأحد (17 و18 إبريل)، للتوقيع على اتفاق بين البلدين يقضي بتبادل النفط العراقي مقابل خدمات يؤمنها لبنان للقطاع الصحي العراقي. إلا أن “طارئا” لم يعرف طابعه بشكل محدد “ألغى” الزيارة.
مكتب رئاسة الحكومة اللبنانية أعلن في حينها أن “أسبابا داخلية عراقية أدت إلى تأجيل موعد الزيارة”، وتناوب وزراء في الحكومة اللبنانية على التطمين لمسار الاتفاق بين البلدين، والتنبؤ بقرب تحديد موعد الزيارة، حتى وصل الأمر بأحد الوزراء حد تحديد “يومين” مهلة لإعلان الموعد الجديد.
إلا أنه وبعد مرور أسبوع وبلوغ الموعد القديم للزيارة، لم يحدد موعد لزيارة الوفد اللبناني، الأمر الذي أثار تساؤلات حول الغموض الذي شاب الملف، حيث كان موضوع الإعلام على مدى أسابيع في البلدين، ثم ما لبث أن خفت الكلام عن الاتفاق العراقي اللبناني، وغابت ملامح قريبة للزيارة المرتقبة.
خطأ موظف!
إلا أن مصادر حكومية عراقية أكدت بحسب موقع “الحرة” أن الأمر بحقيقته لا يحتمل كل التأويل والتحليل السياسي الذي يجري، فكل ما في الأمر أنه جرى حديث بين مكتب رئاسة الوزراء العراقي مع إدارة المراسم في رئاسة الحكومة اللبنانية، حيث أبلغ الموظف العراقي الجانب اللبناني عن فراغ في جدول مواعيد رئيس الحكومة بتاريخ 17 و18 من شهر إبريل، على أن يتم التنسيق مع الرئاسة والحكومة العراقية من أجل تبيان إمكانية تخصيص هذه المواعيد لزيارة لبنانية، وإجراء الترتيبات اللازمة لها. وكان الكلام مجرد دردشة بين الطرفين واستيضاح حول المواعيد من دون أي تحديد رسمي للزيارة.
يؤكد الصحفي والكاتب العراقي، أمين ناصر، المقيم في لبنان والمواكب لمسار وتفاصيل المفاوضات بين البلدين، أن “الجانب العراقي تفاجأ في اليوم التالي بتسريب خبر في وسائل إعلام لبنانية (صحيفة الأخبار) عن زيارة رسمية للحكومة اللبنانية إلى العراق، والخبر منقول عن “مصادر حكومية”، تواصلت مع الناطق باسم الحكومة العراقية لتبيان حقيقة الزيارة فقال “لا علم لي، دعني اسأل الرئيس”، أتى الجواب من عند الرئيس بأن لا علم له أيضا بالزيارة. أي أن الإعلان جاء من الجانب اللبناني”.
ويتابع ناصر “وبما أن الوزراء العراقيين الذين يفترض أن يجلسوا مع الجانب اللبناني ويوقعون معه الاتفاقات، كان لديهم أكثر من ارتباط في الداخل العراقي، وبما أن رئيس الحكومة كان لديه أيضا جدول اعمال محدد، وجد العراق للطرف اللبناني مخرجا لعدم إحراجه، فطلب منه القول إن الزيارة تأجلت لأسباب عراقية داخلية”.
هجوم سياسي مشبوه
إلا أن المفاجأة الأكبر، بحسب ناصر، “كانت في اليوم التالي حيث تفاجأ الجانب العراقي بحملة إعلامية منظمة تهدف إلى تخوين رئاسة الحكومة العراقية واتهامها بالخضوع للضغوط السعودية والأميركية وسعد الحريري، وكل ما سمعه اللبنانيون من كلام بثته وسائل إعلام لبنانية”.
يذكر أن هذه الاتهامات كانت قد صدرت من صحيفة الأخبار اللبنانية المحسوبة على حزب الله سياسيا، وقد صدر بيان عن مكتب رئيس الوزراء الحريري ينفي فيه كل ما ورد في الصحيفة جملة وتفصيلا. وفي المقابل جرى في العراق مواكبة هذه الحملة التي انطلقت في لبنان، حيث وجهت أطراف سياسية محسوبة على إيران و”الحشد الشعبي” انتقادات لحكومة الكاظمي بسبب الغاء الزيارة، واتهامات بالرضوخ لإرادة جهات خارجية.
“كل ذلك عارٍ عن الصحة بمعرفة كل الأطراف المواكبة للمفاوضات بين العراق ولبنان وأبرزهم في لبنان اللواء عباس إبراهيم والرئيس نبيه بري، إضافة إلى الحكومتين اللبنانية والعراقية، وهذا ما طرح تساؤلات حول أسباب الاستهداف السياسي الجاري وزج الاتفاقات التي تهدف إلى المساعدة بين البلدين في اتون صراعات سياسية داخلية وإقليمية لا تفيد أحدا”، يقول ناصر.
يضيف ناصر “وعلى الرغم من ذلك، العراق رسميا لديه قرار بعدم الالتفات لشق الاستغلال والاستثمار السياسي في هذا الملف الذي يحمل أبعادا إنسانية لصالح الشعبين العراقي واللبناني، والدليل أنه لم يصدر سطرا واحدا عن القيادة العراقية في إطار رد أو توضيح على كل ما سيق من كلام مغلوط واتهامات. ولا يزال هناك نية لدى العراقيين بتحديد موعد لزيارة الوفد اللبناني، سيعلنون عنه رسميا حينها، إن لم يكن خلال هذا الشهر فالشهر المقبل”.
مصير الاتفاق؟
الكلام الصادر في الإعلام اللبناني بأن الطرفين العراقي واللبناني كانا قد وقعا اتفاقية هو “كلام غير صحيح وحمل في بعض التفاصيل كذبا موصوفا”، وفق ناصر، فما جرى توقيعه بين الطرفين هو محضر الحديث الذي دار بينهما، و”كانت شبه مسودة لم تصل حتى إلى رئيس الوزراء العراقي وحكومته، إلا أن الإعلام اللبناني استبق كل ذلك معلنا عن اتفاق لم يكن يعلم به العراق رسميا”.
حين وصل المحضر إلى مجلس الوزراء العراقي، تؤكد المصادر أنه علامات استفهام وضعها الرئيس والوزراء العراقيون لناحية الفائدة التي سيحققها العراق من لبنان مقابل النفط، فالمحاصيل الزراعية موجودة ومتوفرة في العراق، واستيرادها من لبنان سيمثل خدمة أخرى ومتنفسا اقتصاديا للبنان وليس للعراق، وعليه تم التركيز على بند الخدمات الطبية تحديدا.
“لا يزال الاتفاق يدور في الحلقة نفسها والسؤال نفسه، ماذا سيقدم لبنان في المقابل؟” بحسب المصادر، “إذ يعاني العراق اليوم من أزمة اقتصادية قد تقارب في خطورتها وتأثيرها ما يجري في لبنان، وعليه يمكن للعراق تقديم المساعدة للدول الشقيقة ولكنه أيضا يحتاجها، كذلك تحتاج الحكومة العراقية في هذه الظروف الاقتصادية أن تحقق مردودا لشعبها مقابل مواردهم النفطية، كي لا يقال إنها تفرط بها، وعليه جرى بحث كثير من الخيارات مع لبنان أبرزها الخدمات الصحية التي يستطيع لبنان تقديمها إن أراد ذلك.”
“الجانب اللبناني لم يقنع نظيره العراقي بالمفاوضات لناحية التقديمات المقابلة من جانبه” يقول ناصر، ويلفت إلى أن “الغاية كانت من تقديم ال٥٠٠ طن من النفط هو الحصول على خدمات طبية وليس بدلا ماليا لمعرفة العراق بعجز الدولة اللبنانية عن دفع أموال. فذهب العراق إلى خيارات المقايضة”.
تضارب أهداف
إلا أن الجانب اللبناني استمر في عدم الالتزام الواضح وذلك لكون وزارة الصحة اللبنانية التي تبرم الاتفاق ليس لديها سلطة أو قدرة على إلزام المستشفيات اللبنانية الخاصة التي تفضل بقاء الوضع على ما هو عليه تحت ذريعة أنه “إن أرسلنا أطباء إلى العراق لن يعود هناك سبب يدفع العراقيين لزيارة لبنان والتطبب فيه”، وبالتالي سيتراجع منسوب إيراداتها الذي تحققه من السياحة الطبية للعراقيين في لبنان”.
“في المقابل كان كلام وزير الصحة العراقي واضحا لناحية قراره القاضي بأن لا يسافر مريض عراقي خارج البلاد لتلقي العلاج، فالنفط العراقي مسخر لصالح العراقيين” يوضح ناصر، ويضيف “وإن لم يتم الاتفاق مع لبنان فهناك خيارات أخرى كجورجيا والهند وحتى إيران، المهم تأمين كوادر طبية وإداريين في المستشفيات العراقية ولاسيما في اقسام العيون والقلب والعظام وغيره”.
يذكر أن العراق يسعى بحسب الخطط الحكومية إلى افتتاح 24 مستشفى في خلال سنة ونصف سنة، ما يحتم الحاجة إلى خبرات متقدمة في إدارة المستشفيات من الناحيتين الفندقية والصحية وفي مجال التمريض والعناية الفائقة والحوكمة الإلكترونية.
“الزيارة قائمة لكن موعدها لم يحدد حتى اللحظة”، تؤكد مصادر الحكومة العراقية “أما بالنسبة للاتفاق فيبدو أنه سيكون وفق أطر جديدة مختلفة عما طرح سابقا، وبشكل يرضي طرفي الاتفاق، والعراق لا يضع شروط قاسية في هذا المكان على الجانب اللبناني، ولا بد أن يكون هناك مخرج من هذا المأزق، هناك طروحات كأن يعامل المريض العراقي معاملة المريض اللبناني حيث يمكنه الدفع بالليرة اللبنانية مثلا، وهناك اقتراحات أخرى كلها قيد الدرس ولم يحسم أي آلية حتى الآن.
مستشفيات لبنان.. آخر من يعلم
وكان مجلس النواب اللبناني قد وافق في نهاية مارس على قرض لشراء الوقود اللازم لتوليد الكهرباء. يمثل 500 ألف طن من البترول، نحو 3,5 ملايين برميل، أي حجم صادرات العراق النفطية اليومية. ويشمل الاتفاق أيضا “التعاون في مجال إدارة المستشفيات والتدريب الطبي”، يشارك فيه خبراء لبنانيون وفرق طبية مختصة ستساهم في إدارة مؤسسات جديدة و”مدن طبيّة” في العراق، وفق الوكالة الوطنية للإعلام.
وبحسب نفى نقيب أصحاب المستشفيات في لبنان، سليمان هارون، الذي أن يكون قد تبلغ بأي تفاصيل حول الاتفاق الذي تجريه الدولة اللبنانية مع العراق، “ولا أحد وضع النقابة أو المستشفيات في أجواء ما يطلبه الاتفاق لناحية تأمين الكوادر الطبية والإدارية، فضلا عن الحديث عن توأمة مستشفيات جامعية أو تسعيرات خاصة بالعراقيين، أو أي من التفاصيل المطروحة للبحث.
ويضيف هارون بأن “الاتفاق كان لا يزال في طور المبدئي، وهذا آخر ما علمناه، ولكن إذا تطلب الاتفاق تأمين كوادر طبية وتمريضية لبنانية للعراق بالتأكيد يمكننا ذلك، والقطاع الطبي في لبنان قادر على ذلك ومن مصلحته هكذا اتفاق شرط أن يكون الاتفاق ملائما ومناسبا لمصلحة المستشفيات والكوادر الطبية. وبإمكاننا عمل تعريفات خاصة بالعراقيين ومنفتحين على هذا الأمر في إطار اتفاق على مستوى دولتين”.
ماذا عن النفط؟
تتحدث مصادر الحكومة العراقية عن وجود ضغط كبير من أطراف داخلية من لبنان والعراق لعدم إتمام هذه الصفقة، “هناك أطراف في الحكومة العراقية تعارض هذا الاتفاق، وما كان مجلس الوزراء العراقي ليصوت على هذا القرار مجتمعا فهناك من يرى فيه تفريطا بالنفط العراقي، ويعبر عن مزاج شعبي موجود في العراق ولديه هذه الرؤية للأمر خاصة أن العراق يمر اليوم بظروف اقتصادية صعبة تجعله بحاجة لأي مورد أمامه يساعده في أزمته، وبالتالي هناك من يرى أن الشعب العراقي أولى بموارد البلاد”.
وفي لبنان، يرى مواطنون في الصفقة المطروحة فائدة فئوية تؤمن استمرارية المنظومة الحاكمة وتؤجل انهيارها التام حين ستعجز عن تأمين خدمات أساسية كالكهرباء والنفط، خاصة وأن الاتفاق لا يمثل خطة مستدامة وإنما حل مؤقت يحمل في طياته غايات سياسية أكثر مما تصب في صالح المواطنين.
وتؤكد الخبيرة اللبنانية في مجال النفط والغاز ومديرة معهد حوكمة الموارد الطبيعية، لوري هايتايان، أن كل هذا الاتفاق ليس سوى “ترقيع” للمشكلة التي يعاني منها لبنان على صعيد حاجاته النفطية. “فما بين أن يجد طريقة يستورد بها حاجاته النفطية بشكل مباشر، وبين أن يستورد نفط خام بتسهيلات معينة ثم يبحث عمن يكرره له ويضطر إلى تلبية حاجات العراق من خدمات طبية فيما لبنان يحتاج أصلا لتلك الخدمات ويعجز عن تأمين حاجاته من المعدات والكوادر الطبية التي تهاجر، فيما تعاني المستشفيات الخاصة في استيفاء مستحقاتها وديونها من الدولة اللبنانية ووزارة صحتها وتقوم بصرف موظفيها بسبب عجزها عن دفع مستحقاتهم، وبالتالي كل العملية معقدة وغير قابلة للتنفيذ ولا تمثل حلاً مستداما بأصلها.”
“وعلى ما يبدو أن هذا الاتفاق بأساسه ليس مناسباً، لا للبنان ولا للعراق”، تشير هايتايان في حديثها لموقع “الحرة”، وتنقل عن نشطاء وخبراء عراقيون اعتبارهم هذا الاتفاق هدرا في موارد الشعب العراقي، لصالح لبنان أو حتى فئات لبنانية محددة، على حساب حاجة الشعب العراقي لكل فرصة أو مورد للدولار في الأزمة الاقتصادية التي يعيشها العراقيون”.
“هناك في الأساس لغط حول ما سيصلنا من العراق، هل هو نفط خام أم انه فيول؟” تسأل الخبيرة النفطية، وتضيف قولها: “إن كان مادة الفيول الخاصة بتشغيل معامل الكهرباء في لبنان، مشكلة الفيول العراقي أنه يحتوي على نسبة الكبريت ٤ في المئة وما يستخدم في لبنان يجب أن يحتوي على ١ في المئة. أما إذا كان نفط خام فهنا في لبنان لا يمكننا الاستفادة منه بشكل فعال، حيث يستوجب بحث في الطريقة التي سيعمد فيها لبنان إلى تكريره، فمصافي النفط في لبنان معطلة منذ زمن، ما يستوجب تأمين طريقة لتكريره خارج لبنان. إما في العراق أو عبر طرف ثالث”.
تلفت هايتايان إلى أن حصول لبنان على نفط خام ثم نبحث عمن يكرره وما يرتبه ذلك من تكاليف التكرير قد يكون مربكا للدولة اللبنانية أكثر مما هو مساعد. وهنا الأسئلة المطروحة، ما الفائدة التي ستعود على المستشفيات الجامعية اللبنانية لتوافق على الدخول مع وزارة الصحة بهذه الاتفاقات؟ من هي الجهة الثالثة التي ستكرر النفط وتستفيد من نقله وتسليمه، وكيف ستحصل على بدل اتعابها، مالياً أو عبر حصة لها؟
“يوم بيوم”
وبحسب ما أوضح الجانب اللبناني، من المرجح أن تدخل شركة وسيطة مجددا بين الدولة اللبنانيّة والمورّد الأساسي للنفط، أي العراق. ويخشى اللبنانيون في هذه الحالة من تكرار سيناريو الهدر والفساد كما جرى العام الماضي مع شركة “سوناطراك” الجزائرية التي تزود لبنان بمادة الفيول، حيث أدخل طرف ثالث على العملية (شركة ZR energy) وأدى إلى فضيحة “الفيول المغشوش” التي لا تزال موضع نزاع قضائي بين الدولة اللبنانية وشركة “سوناطراك” التي أعلنت أنها لن تجدد عقدها مع الدولة اللبنانية بعد تلك الواقعة العام الماضي.
تؤكد هايتايان أن “الهبة بحد ذاتها محدودة ولا تسد إلا جزءا بسيطا من حاجة لبنان (سدس حاجته) وبالتالي هذا لا يمثل حلا للأزمة المقبلة على لبنان بعد رفع الدعم كليا عن المحروقات.” وتسأل “سوناطراك أبلغت الجانب اللبناني منذ صيف العام ٢٠٢٠ أنها ستتوقف عن تسليم الفيول، لماذا لم ينجح الجانب اللبناني حتى اليوم بإقامة مناقصة لتأمين شركة بديلة تزود البلاد بحاجته للكهرباء؟ استمر إهمال الملف وتأجيله إلى ما قبل أسبوع حيث سمعنا عن نية إقامة مناقصة، ثم نسمع اليوم عن إمكانية الغائها.
وتختم الخبيرة النفطية معتبرة أن “المنظومة الحاكمة تعمل وفق نظام “يوم بيوم” بلا أي رؤية على المدى البعيد، وتتذرع الحكومة بكونها حكومة تصريف الأعمال لتفتش عن حلول مؤقتة خلال الأزمة تدخل لبنان في اتفاقات اقتصادية وتجارية بلا طائل فقط لربطه سياسياً بمحاور ودول بالقوة وبضغط الأمر الواقع”.