ماذا يحصل حين تغيب الرواتب عن جيوب الموظفين والمتقاعدين ؟
بقلم:باسل عباس خضير
بصراحة كاملة ، كل شيء كنا نتوقعه من العيش في وطننا دون هجرة او هروب ، إلا إن شيئا واحدا لم يكن في الحسبان وهو أن تعجز الدولة عن دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين ، ليس من ثقة مفرطة او زائدة عن اللزوم بمن يدير الأمور ولكن لأن بلدنا يمتلك ثاني او ثالث احتياطي من النفط وكميات هائلة من الغاز والمعادن ويفترض أن يكون من كبار الأغنياء في الأموال ، ولكن يبدو إن التوارث في سوء الإدارة والتدبير هي التي أوصلت الناس للتشكي من عدم استلام رواتب شهر أيلول لحد اليوم ، وتأخير دفع الرواتب الحكومية ليست حالة شائعة منذ عقود وهي حالة تصيب الكثير بالهلع والجزع والإحراج ، لان الموظفين والمتقاعدين ممن يعيشون على الرواتب فحسب من باب النزاهة وعدم وجود مورد آخر يعني الشيء الكثير ، ونتذكر بهذا الخصوص قول احد أساتذتنا في الجامعة رحمه الله ( إن الوظيفة الحكومية غير الفاسدة يمكن أن يعيش بها الإنسان ولكنها لا تحوله إلى غني وصاحب ثروة بأي حال من الأحوال ) ، وبسبب هذه المقولة وغيرها فقد ارتجفت أجسادنا عندما اطلعنا بوسائل الإعلام بان الحكومة تنتظر تدبير أمر ما لتوفير راتب أيلول ، والبعض برروا السبب على انه يعود لخلل تقني او لعدم المصادقة على موازنة 2020 التي قدمت للبرلمان بعد مرور تسعة أشهر على بداية السنة المالية ثم سحبت لإجراء تعديلات عليها على أمل إعادتها لمجلس النواب الذي عطل عقد جلساته لغاية 10 تشرين الأول لأسباب غير مقنعة للكثير ، والنتيجة واحدة وهي إن الرواتب قد تأخرت عن مواعيدها وان السقف الزمني مفتوح للتأخير فلا يعلم إلا الله متى ستوزع الرواتب لإدخال الفرحة إلى الشعب ، فالرواتب كما يبدو ستتحول إلى ( مكرمة ) يتندرون بها وكأن القصد هو لعن اللحظة التي ولدنا فيها بهذا البلد الكريم الذي أرسل قبل أسابيع كميات من المساعدات إلى لبنان والسودان وقبلها اغدق بالكرم لمعظم البلدان .وتأخير دفع رواتب الموظفين والمتقاعدين ليس حدثا كسائر الإحداث نتناقله هنا او هناك ، لان له الكثير من المعاني والانعكاسات المادية والمعنوية ، فتداوله وإدراكه لدى فئة الأطفال والفتيان يعطي انطباعا يصيب بشكل سلبي جوانب من البناء الوطني ويبعث في روح الكثير فقدان الأمل والسعادة التي انشإت لها البلدان وزارات ، ومن الناحية البديهية فانه مخالف لكل النظريات والمعادلات إذ لا يتمكن العقل البشري أن يستوعب بان ثاني اكبر مصدر للنفط في اوبك يتعرض لهذا الموقف الذي هو غاية في العيب والإحراج ، فإذا كانت إيرادات النفط غير كافية لتغطية نفقات الرواتب فأين ذهبت بقية الموارد وما هو دور ملايين العقول والشهادات العليا والأولية ودونها لتدرك من وقت مبكر هذه المشكلة لتوضع لها الحلول ، وما فائدة أن تكون لنا مجالس وهيئات ووزارات ولجان ومستشارين والفأس تقع في الرأس ونعجز عن تدبر أمورنا شهر بشهر ، وإذا كان الفساد هو السبب فلماذا يجوع أكثر من ثلث السكان لأنهم بلا مدخولات ويجزع الثلثين الآخرين لتأخر رواتبهم حتى اليوم ، فعدد الذين يعيشون على الرواتب الحلال أكثر من نصف السكان وهم اليوم او قبل أسبوعين بانتظار دفع الإيجار وأجور المولدة وخدمة الانترنيت وشراء حليب الأطفال والحفاظات والخبز وغيرها من متطلبات المعيشة التي باتت صعبة في العراق الذي انتشر فيه وباء كورونا بشكل رهيب فهناك العديد من الإصابات غير المسجلة لان بعض الناس يخافون دخول المستشفيات الحكومية ويلجأون إلى القطاع الطبي الخاص الذي يخلو من أية رقابة ملموسة وبعضه ينهش بلحم الكثير من الأجساد الفقيرة التي لا يكسوها سوى عظما وجلدا وليست مغطاة بالفراء في بلد الأنبياء والأوصياء وأهل البيت الطاهرين ( ع ) الذي خصه الله بالكثير من الخيرات ، وكما يعرف الجميع فان اغلب أصحاب الاستحقاق من الدائنين وأصحاب العقارات والمولات والبقالين والمولدات لا يعرفون معنى تأجيل الدفع بسبب تأخير دفع الرواتب ، فمنهم لديهم التزامات وقروض وقد استثمروا وينتظرون العائد وهو ما يسبب خلافات وصراعات ما بين الدائن والمدين ، وهم يرددون هل سامحتكم الدولة عن ديونها او قدمت لنا تسهيلات لكي نتعامل معكم بالمثل ؟! .الغريب في الأمر ، إن موضوع تأخير الرواتب الذي يهم معظم سكان البلاد لم يحتل موقعا مناسبا في نشرات الإخبار وفي حلقات المحللين السياسيين او غيرهم وكأنه حدث عابر سيمر مرور الكرام ، ولكن في طياته الكثير من الإسرار والاحتمالات في التداعيات لأنه يعبر بشكل او بآخر عن مدى يأس الناس من الحكومات التي تعاقبت على حكم العراق منذ عقود ، فالأزمتين المالية والصحية لم تمرا على العراق لوحده وإنما مرت على كل البلدان ، وهناك من يحسدنا بأننا أفضل حالا من الآخرين لان الإصابات المعلنة رسميا بالعراق ليست هي الاعلى عالميا ونسبة الشفاء وصلت إلى 80% كما يقولون ، والنفط لم يتوقف كليا وإنما انخفضت أسعاره إلى اقل من النصف وكمياته بنسب معروفة ووافقنا عليها بملأ الفم ، كما إننا ا نملك احتياطيات في البنك المركزي من الدولار والذهب ونتباهى بها خلال ما مضى من السنين وفي مقابل ذلك فهناك بلدان اقل تأثرا بالأزمات وهي لا تملك نفطا او مياه ، وهو ما يعني إن أمور الاقتصاد عندنا لا تدار بالشكل الصحيح وهو ما يعرفه الجميع ويسكتون عنه لان الرواتب كانت تدفع بانتظام ، ولا نريد الخوض أكثر في تفاصيل ما تمر به البلاد لأننا نمسك بالجرح ونعرف من أين تنزف الدماء ولكن لم تتوفر الإرادة والإدارة للمعالجة والمداواة ، وربما سيكون لهذا التأخير وما يتوقع أن يعقبه ( لان نصف الرواتب على الأقل تغطى من الاقتراض الداخلي والخارجي ) تأثير على التخلص من أفيون الرواتب بما يشجع في العمل بالقطاع الخاص بشكل جزئي او كلي من باب البديل او الاحتياط ، او إدراك الناس بان الوضع وصل إلى حدود لا يمكن السكوت عليها مما يتطلب الإسهام في الإصلاح لان الإصلاح وسيلته وغايته الشعب وليس حصرا بالسياسيين كما يعتقد البعض سهوا ، وربما نتحول مسألة تأخير دفع الرواتب لإحياء المقولة الشائعة ( رب ضارة نافعة ) ، لأنه ليس من المعقول إن تستمر قدرة الدولة على دفع الرواتب من خلال الاقتراض والاعتماد على النفط فالقروض تدفع عنها فوائد ويجب تسديها كاملة فيما بعد ، كما تخبرنا التقارير الصحية الدولية إن العالم مقبل على موجة ثانية وثالثة من جائحة كورونا مما يعني انخفاض الطلب على النفط سينتج عنه تكبد خسائر اكبر من انخفاض الصادرات والأسعار .