لم تكد أنباء الخروقات الأمنية التي حدثت في كركوك أخيراً تصل بغداد، حتى شرعت ماكنات سياسية ودعائية بترويج فكرة تحميل رئيس الوزراء حيدر العبادي المسؤولية، لإعلانه نهاية العمليات العسكرية ومحاولة استثماره النصر العسكري انتخابياً، لكن المنطق السياسي في العراق مختلف تماماً عن المنطق الشعبي، ففي الشارع يضع الناس أيديهم على قلوبهم مع اقتراب موسم الانتخابات متوقعين المزيد من الانهيارات الأمنية.
وهذا مدخل مهم لفهم طبيعة التوازنات الداخلية المعقدة التي حاول العبادي ضمانها خلال الفترة الماضية، والتي كثيراً ما كانت انعكاساً لتوازنات خارجية جمعت مواقف متناقضة على هدف الحرب ضد «داعش» والتخفيف من حدة الاشتراطات الإقليمية والدولية لدعم العراق في هذه الحرب، فكان ممكناً للمرة الأولى تخيل خبراء أميركيين، ومجموعات مسلحة تدين بالولاء إلى إيران، وأسلحة بتبرعات خليجية وأوربية في ساحة حرب واحدة ضد عدو مشترك. وكان مشروع الحرب المشتركة على «داعش» ناجحاً على رغم المحاولات المختلفة للاستئثار بها وبنتائجها، وانعكس سريعاً على طبيعة التمركزات الإقليمية والدولية في العراق، حيث استقبلت بغداد وفوداً وشركات إيرانية وأميركية وأوروبية وخليجية وتركية في أسبوع واحد، لتسمح بتدفق الأمنيات الشعبية المكبوتة ربما منذ قرن من الزمان بإمكان تحقيق السلام عبر الدبلوماسية الهادئة لا العدائية.
لكن الأمر ليس سهلاً كما يبدو عليه، وتحركات العبادي السياسية التي لاقت تأييداً شعبياً واسعاً، في مقابل اعتراضات داخلية وإقليمية، تواجه اليوم تحديات وعقبات وممانعات حقيقية قد تطيح بالإنجاز الأمني برمته. العبادي وأصدقاؤه «المنبطحون» كما أطلق عليهم تيار «الممانعة» المقرب من إيران والداعي إلى فتح الحرب على الجميع ومع الجميع، باتوا أكثر جرأة في الحديث عن خيارات العراق الذي خرج للتو من الحرب القاسية محطم البنى ومهدداً في وحدته وفي صميم وجوده، وهو بحاجة إلى استحضار توازنات الحرب الناجحة على شكل استراتيجية دائمة وهوية ونمط علاقات خارجية بل ونمط حياة.
لكن الاستراتيجيات لا تبنيها التوازنات فقط، فهي تتطلب ثوابت وأسساً متفقاً عليها وطنياً، والوقت طويل أمام العراق قبل ترسيخ مثل هذه الثوابت، ما يجعله على الدوام عرضة للمغامرات، ليست مغامرات أهله فقط، بل جيرانه وأصدقائه وأعدائه أيضاً.
متغيرات إدارة ترامب الأخيرة، كان صداها في العراق أكبر حتى من واشنطن، فرحيل بعض كبار أركان الإدارة الذين وصفوا دائماً بأنهم أكثر تفهماً من سواهم للتوازنات التي يحتاج إليها العراق بحكم خدمتهم العسكرية في مدنه لسنوات، أثار قلقاً عراقياً من تداعيات محتملة على الوضع الداخلي، خصوصاً مع بروز تكهنات حول نية الإدارة الجديدة وضع الحكومة العراقية الحالية أو تلك التي تنتجها الانتخابات أمام اختبار معنا أو ضدنا، وهو الاختبار القاسي نفسه الذي تمسكت به إيران سنوات وأجبرت الطبقة السياسية على الإذعان له. واقع الحال أن أي تغيير في مواقف القوى المختلفة حول الوضع العراقي قد يولد ارتدادات عميقة الأثر، وسيصادر فرصة العراق في تنمية تجربته لتثبيت السلام الهش الذي شهده خلال الشهور الأخيرة.
لا تقوم «فلسفة المنبطحين» على تحويل العراق ساحة إيرانية لمعاقبة أميركا أو دول الشرق الأوسط، كما أنها لا تقوم على فكرة تحويل العراق إلى ذراع لمعاقبة إيران… لا يقوى العراق على التكفل بأي من تلك المهمات، وهو أمر قد يتم تفهمه لدى عديد من دول المنطقة، لكن للأسف لا يتم فهمه بعمق من قبل إيران وأصدقائها، والخشية أن لا يكون مفهوماً كما يجب لدى تشكيلة إدارة ترامب الجديدة.
الانتخابات العراقية قد تكون فرصة جيدة لاختبار ردود الفعل الإيرانية والأميركية حول العراق، ليس في ساحة الصراع الانتخابي ودعم المرشحين المنسجمين مع نظرية «معنا أو ضدنا» بل على صعيد الأمن وسلم المجتمع أولاً، واستخدام ورقة الدم كبطاقة انتخاب مجربة أخيراً.