ويلٌ لأمةٍ مستقبلها أوضح من ماضيها
ويلٌ لأمةٍ مستقبلها أوضح من ماضيها – منقذ داغر
أعترف أن هذا العنوان يبدو غريباً وغير منطقي،فالطبيعي أن يكون الماضي هو المعلوم والمستقبل هو المجهول. لكن كما في كثير من الأمور الأخرى فيبدو أن العراق قد شذّ مرةً أخرى عن القاعدة وخطّ لنفسه مساراً آخر.فالمستقبل في العراق هو الواضح والماضي هو المختلف عليه.
تقنياً فأن العلوم الأجتماعية تتعامل مع الزمن بأعتباره ثلاثي الأبعاد. أما عملياً فإني أؤمن،كما يؤمن غيري من الباحثين أن الزمن ثنائي الأبعاد كون الحاضر لا وجود له من الناحية العملية.
فالحاضر هو لحظة زمنية كانت قبل هنيهة مستقبلاً ثم باتت ماضياً مباشرةً بعد ذلك،حالما تم أستهلاكها ومرورها. لذا فالعراقيون محصورين كما كل العالم بين ماضٍ ذهب بلا عودة،وحاضرٍ قادمٍ بلا تؤدة.
لكن كيف يمكن للماضي الذي مر بنا أن يكون مختلفٌ عليه،والمستقبل الذي سيأتي متفقٌ عليه؟هنا لا بد من التمييز بين ماضيين أولهما قديمٌ مضت عليه عقودٌ وقرونٌ وأجيال،وهو ما يتعارف عليه الجميع بالماضي،والآخر حديثٌ عاشه هذا الجيل وكان شاهداً عليه وصانعاً له،وهو ما يتعارف عليه الناس بالحاضر الراهن. ومع أعترافي بأن التمييز بين هذين الماضيين هو تمييزٌ مصطنع ،آخذاً بنظر الأعتبار ما ذكرته سابقاً من أنه لا يوجد شيء أسمه حاضر الأ في علم اللغة ونحوها، ألا أني أعتقد أن الجميع يستطيع التمييز أجمالاً بين الماضي القريب والآخر البعيد.
ما يهمني هنا أن العراقيين من أكثر شعوب العالم أختلافاً على ماضيهم مع أقراري أنهم ليسوا الوحيدين في ذلك.لكن ما يميز العراقيين ويزيد من مشكلة أختلافهم على ماضيهم البعيد،وحتى القريب هو أنه ليس فاعلاً في ذاكرتهم الجمعية والفردية حسب،بل هو فاعلٌ في كل شؤون حياتهم اليومية وسلوكياتهم الأجتماعية والسياسية والدينية بل وحتى الأقتصادية! ولا أعتقد أني محتاج لضرب أمثلة عن أختلافنا على ماضينا الديني الذي يصنع كثير من وعينا السلوكي فالكل يعلم أختلافنا على السقيفة وما تلاها،والملّة الناجية دون سواها، وآخرتنا ومنتهاها. أما على الصعيد السياسي فنحن مختلفون على كل نظامٍ مر بالعراق وحكمه منذ العصور الأسلامية الى يومنا هذا. ولا زلنا لم نتفق مثلاً هل أن العهد الملكي كان أفضل أم العهود الجمهورية التي تلته. بل لا زال البعض يسمي الأحتلال الأمريكي تحرير،ونظامه الحالي بشير وليس تدمير! وحتى في الفساد الذي لا يختلف أثنان على شيوعه وتغلغله فلا زال البعض يعتقد أن النظام السابق هو من خلقه،في حين يجادل آخرون أن الأميركان هم من أسسوا له،كما أن هناك الكثير ممن يعتقدون أن الأحزاب والميليشيات ونظامنا الأقتصادي الفاشل هم المسؤولون عن الفساد! وقد يكون كل ذلك صحيح لكن ما يهمني هنا هو هذا الأختلاف الذي جُبل العراقيون عليه حتى فيما يخص وقائع عايشوها وكانوا جزءً منها. ولهوس العراقيين بالتاريخ وما سيقوله عنهم تراهم يحرّفون الوقائع أو يغضون الطرف عن بعضها كي تكون السردية التاريخية في صالحهم. لذلك ترى البعض يجاهر مثلاً بالقول أننا لا نريد للتاريخ أن يقول أن الشيعة فقدوا الحكم بعدما دال لهم،وآخرون يقولون لا نريد أن يُكتب عن السنة أنهم لم يستطيعوا المحافظة على أرثهم التاريخي في حكم العراق.وحينما تقول للبعض أن كل وقائع الحاضر وليس فقط الماضي، تدل أن هذا خليجٌ عربي فيبرز لك من يؤكد أن التاريخ يقول أنه فارسي،متجاهلاً أننا نحن من نكتب التاريخ بأفعالنا لا بماضينا!شبه اجماعومع كل هذا التاريخ المختلف عليه،فأن هناك شبه أجماع أن الوضع الحالي الذي يعيشه العراقيون سوف لن ينتج لنا سوى مستقبل بائس لأبناءنا وأحفادنا. فالمستقبل هو نتاج الوضع الراهن ولا أعتقد أن هناك خلاف كبير أن الراهن في العراق هو مزيج من الفساد وضعف الدولة وسيادة السلاح وتخلف التعليم والصحة والخدمات العامة وأنفجار الفقر وعدم المساواة الأجتماعية. ولا أراني هنا محتاجاً لعرض كثير من الأرقام والحقائق عن الفساد والتخلف في كل هذه المناحي لأنها باتت أوضح من الشمس ويشهد عليها الحكام قبل المحكومين. نعم بات العراق أسيراً لوضعٍ مقلوب،فماضيه مختَلًفٌ عليه ومستقبله متَّفَقٌ عليه. يبدو أن العراقيين بحاجة ماسة الى سردية تاريخية بسيطة وغير تفصيلية وجامعة،تبتعد عن الدين وتتجنب السياسة لكي تنشأ عليها الأجيال وتدرّس في الأبتدائية أو المتوسطة في أقصى حد،فأننا نحتاج في ذات الوقت على التركيز على الفلسفة بكل مباحثها في الأخلاق والجمال والتفكير وقبول الآخر وفي كل المراحل الدراسية بضمنها الجامعية .نحتاج الى الأكثار من الفن والرياضة والأدب وقبل كل ذلك العلم في مدارسنا وثقافتنا. بأختصار،نحتاج الى تعميق ثقافة الأنجاز والأبتعاد عن سرديات الأعجاز.