وطن من الوجع
ياس خضير البياتي
حلُمنا اليوم أن يصير العراق دولة، وأن يكون لنا مسكنٌ آمنٌ ضد الرصاص والقذائف والهاونات، وحصنٌ حصين من القانون يمنع اقتحام اللصوص والمليشيات الوقِحة، وأن ننام في هدوء وسكينة دون كوابيس الجوع والرعب المهينة، وألا نستيقظ ثم نسمع أنين الفقراء، ولا شكوى الحكومة من فقر الميزانية وعجزها المالي، ولا طنطات المشاريع الوهمية، وأكذوبة نزاهة سرقة المال الحرام، وألاعيب المافيات الحزبية والحكومية الطليقة، المعفاة من كل تجريم.الوطن صار بلا عافية المواطنة، فالرؤية حقا عمياء، وليس في الأفق بارقة أمل تلوح لتبشر بعودة العراق إلى عافيته كاملًا؛ فالطوائف قد قتلته، ورغم ذلك لا تريد دفنه، وتنتظر أن تستولي على آخر ممتلكاته. والأحزاب على تنوعها وطوائفها، أسست لنا ثقافة التعصُّب والأكاذيب؛ فاقتلعوا المواطنة من جذورها، وصنعوا لنا وهم الطائفة على حساب الوطن، وقتلوا التربيةَ الوطنية في النفوس، وأغرقوا مجتمعنا في دوامة الخوف والشك والعتمة والسواد؛ ليقيموا لنا زرائب حيوانية، وطوائف هائجة بالتعصب، ملغومة بالثأر والقتل!نشك أحيانًا بأن العراق هو العراق بمفاخِره وحضارته وثقافته، فقد كنا نأمل أن يكون ملجئًا لنا، نحتمي به عند المصائب والكوارث؛ فأضحى مكانًا للقتَلة وللصوص السياسة، ومرجعًا للغيبيَّات، وأبالسة الدين الحرام. فلا كان العراق وطنًا، ولا أهله مواطنين. ضاع كل شيء في هذا الوطن!، حيث تم بيعُه بالمزاد العلني؛ كرامته، وأرضه، وأنهاره، وسيادته. صار سهلًا هيِّنًا بعد أن كان أبيًّا قيِّمًا بين الأوطان.هذا العراق الجميل؛ بأنبيائه، وأنهاره، وبساتينه، وثقافته المتنوعة. هذا الذي كنا فيه، رسب في امتحان الوطنية والإعمار والتنمية والديمقراطية، ونجح بتفنُّنٍ في سرقة قوت الشعب، ونهب أراضيه وممتلكاته، وإعادة الماضي الكئيب بطقوسه وغيبيَّاته ومذابحه الدموية، وثأر القبائل وعصبيتهم.نحن لا نستثني أحدًا من الأحزاب في خراب الوطن، كلهم يعني كلهم!، ليس بينهم برئ قَط، إنهم سلاطين الخراب والجاهلية والتخلُّف، وإن وُجِد أناسٌ مؤمنون بالوطن فهم قلة؛ حاولوا وفشلوا!، رغبوا ثم خابوا ويئسوا! هناك أيضا شعب مجنون بالجن والعفاريت والسحر والطقوس الحزينة، والطبخ والأبراج، والشكوى والمطالب، والبكاء على التاريخ، لا على الحاضر؛ شعبٌ مزدوج المِزاج ما بين فرح اللحظة، ونشوة الرقص وفنونها وباراتها، وبين حزن الأيام الطويلة؛ يومٌ فرح، وأشهُرُ نحيبٍ لا تنتهي، ومآتم متوالية لا تستقر على حال. شعبٌ يغرق بالمذلة، وهو يصرخ (هيهات مِنا الذلة)!أيُعقل ألا نرى في كل ما حولنا إلا السواد والمآتم وبسطات الشباب و(التيك توك) الهندي، وألا نتصورَ وطنَنا إلا(كومة) من الخراب والمزابل والمياه الآسنة؟!، أيُعقل أن نتحوَّل من بلد العلم والحضارات إلى مجاميع بشرية، نتنابز بالألقاب والطوائف والعشائر، ونعيش على الصراعات والكراهية، وننشغل بتعداد النقائص بيننا، ونستشهد بالموتى في تقرير مصائرنا وحياتنا؛ حتى تحوَّل وطننا إلى موطن العار والدمار!في اليابان، يعتذر رئيس الحكومة لأن القطار تأخَّر سبع ثوانٍ عن موعد انطلاقه، وينحني أمام الشعب طوال هذه المدة. طالبًا الصفح، وفي عراقنا (الديمقراطي البرلماني)، لم نسمع يومًا أن اعتذر مسؤولٌ حتى عن أكبر الجرائم؛ محوُ مدن بأكملها، وتهجير العوائل الآمنة، وقتل الآلاف من البشر تحت مُسميات عديدة جاهزة، وسرقة المليارات من خزائن الدولة دون عقاب حقيقي.بلد بلا كهرباء وبلا مياه… وبلا دولة!، ومدارس بلا تعليم، وجامعات بلا علم، ومستشفيات بلا أسرة ودواء!، وشعبه يملك من الذكاء والعلم والعبقرية ما لا يملكه غيره من الشعوب؛ ولكنه محكومٌ بمافيات سياسية محنَّكة جدًّا في تصدير خزعبلات الماضي وطقوسه المريضة، وقتل الذكاء الإنساني.بلدٌ يحكمه شرذمةٌ من الناس، قاءها الزمن، ولفظتها كتب الشرفاء، بلدٌ تنعق فيها غربان السياسة؛ حيث يُمسك بالقلم جاهل، وبالبندقية مجرم، وبالسلطة عميل خائن؛ فيتحول الوطن إلى غابة لا تصلح للعيش؛ حيث يصبح الوطن كيانًا وهميًّا من دون فعل، ممنوعًا من الحضور والتألق. وهنا يكون الوصف الدقيق ما قاله أبو حيان التوحيدي: (أغرب الغُرباء من صار غريبًا في وطنه!). وقيل أيضًا: أسوأ الناس حظًّا: الصادقون في المجتمعات الكاذبة.ولكي يكون هناك وطنٌ بخير؛ يجب أن تكون قيمة الإنسان فوق قيمة الوطن، فالمواطن هو أصل الوطن، ولا يكون الوطن بخير إلا في دولة المواطنة وحقوق الإنسان؛ عندئذٍ يكون الإنسان بخير. فلا خير في وطن تتم مواءمتُه وتفصيلُه واختزالُه على قياس الحاكم أو الحزب، حيث يكوِّنان الوطنَ البديل. هنا يصبح الوطن قصةَ حب فاشلة. شيء محزن أن نرى العراق تنتكس راياته، ويصبح أكثر الأوطان تخلُّفًا وتعاسة وفقرًا، رغم أنه وطن النخيل والأنبياء والمعارف، والتاريخ والجغرافيا، وملهم البشرية، أبجدية العلم وأصوله. ولا أحد من العراقيين الوطنيين يريد استمرار نزيف العراق، أو أن تتوقف مسيرة وطن كان الأحلى والأرقى والأسعد بين الأمم، وكان مضربَ الأمثال حضارةً وحضورًا وتطورًا، تُضاءُ الأممُ بعنفوانه، ولا يغفو له جفنْ… منذُ قديم الأزل، و(الشموس جميعًا عليها تدور!).فالوطن يا صاحبي، ليس شارعًا جميلًا، ولا متجرًا يبيع الأوهام!، وليس مطعمًا لملء البطون، الوطن هو إنسان يعيش بكرامة على أرض ترفع رايات المواطنة، ويبتكر السعادة لمواطنيه، ويؤسس نظامًا مدنيًّا، وقوانينَ متقدمة في فهم الحياة، وطن يسكن فيه المواطن بخدمات ترتقي بإنسانيته؛ فيه تعليمٌ يصنع له عقلًا علميًّا مُبتكِرًا، وصحةٌ علاجها يجلب السعادة ويؤسس جودة الحياة، ومواطَنة مُؤَمَّنة بالحقوق المتساوية في العمل والحياة؛ لأننا اليوم بنا من الحزن ما بنا، وبنا من البكاء ما تبكي له المدن والأمم.وأي حزن هذا، ونحن كلَّ يوم في ذهول نصرخ: أين العراق الجميل؟!