حسن النواب
إذا كانت فلسطين قدْ تمَّ بيعها بالمزاد الصهيوني في أربعينيات القرن الماضي، فأنَّ أرض السواد تعرَّضتْ إلى أكثر من مزادٍ قسريٍّ قديماً وحاضراً وستُباع بمزادٍ علنيٍّ مريبٍ في قادم الأيام. لستُ مؤرِّخاً حتَّى أذكر بالتفصيل فصول المزاد العلني التي شهدتها البلاد خلال تأريخ حياتها الذي يمتد إلى آلاف السنين، فلقد كان أوَّل مزادٍ بالعصر السومري عندما غزتْ جيوش غامضة أرض السواد وتمَّ توزيع أراضيها على الأغراب، ثم جاء مزاد الدولة العباسية، ومزاد المغول الذين جعلوا نهر دجلة بلون الحبر إثرَ إغراق آلاف الكتب النفيسة بموجهِ الحزين، أمَّا في العصر الحديث فكان مزاد الجنرال «مود» مع جنودهِ المرتزقة، ثُمَّ مزاد العائلة المالكة من سلالة بني هاشم، ثم مزادات الثورات الدمويَّة التي تُوِّجت بمزاد مرعب للطاغية بحق الناس الأبرياء عبر حروبٍ مجانيةٍ جعلت البلاد تزحف مثل طفل عليل مصاب بالكساح. فعندما اشتدَّ الحصار على البلاد، وأصبح الناس يأكلون خبز الشعير الأسود الذي كان علفاً للمواشي، قرَّر الطاغية إجراء تقشفٍ شديدٍ على جميع مرافق الدولة، شمل آليات الوزرات ودوائرها الحكومية وشمل هذا التقشف حتَّى القصر الجمهوري، وتمَّ بيع عشرات الآلاف من السيارات الحكومية بمزاد علني لرفد خزينة الدولة بموارد مالية تجعلها تقاوم الحصار، في هذا التقشف العنيف تم تجريد دوائر الدولة من معظم سياراتها، وأصبحت وزارة الثقافة على سبيل المثال، لا تمتلك سوى عشر سيارات فقط من ضمنها سيارة الوزير، حد أنَّ قافلة الشعراء التي ذهبت في شهر أكتوبر من عام 1997 لمقابلة الطاغية في قصره المنيف بمناسبة ذكرى توقف الحرب العراقية الإيرانية؛ كانت تحملهم سيارة كوستر نصف عمر تابعة إلى نقليات رئاسة الجمهورية، كاد محرِّكُها يخمدُ على جسر المعلِّق لولا صلوات السائق وتوسَّله بالله حتَّى يصل بالشعراء للقصر الجمهوري، وقد دُهش الشعراء حينما شاهدوا في مغاسلهِ الرئاسية أنَّ صابون غسل اليدين للضيوف، كان من نوع تلك الصوابين الرديئة التي توَّزع مع الحصة التموينية، غير أنَّ الطاغية لم يجرؤ على التلاعب بقيمة الدولار أو بيع عقارات الدولة بالمزاد العلني برغم عسر الحال واكتفى بالآليات لبيعها بمزادٍ مخجلٍ ومُهينْ. حتَّى حدث المزاد الجنوني الموجع لهذه البلاد، عندما هبط سعر الدولار فجأةً وأصبح يساوي أربعين ألف دولاراً نتيجة قرار الأمم المتحدة بالسماح للعراق تصدير نفطه لسدِّ احتياجات الناس الغذائية، وأصبح دولاب الدولة يدور بالعكس، وارتبكتْ موازين البلاد والناس في عمليات البيع والشراء، وتحوَّلتْ الساحات العامة في جميع مدن العراق إلى مزادات علنيَّة مخزية، وكنتُ مساهماً فيهِ حين بعتُ مقتنيات بسيطة تعود لي لإشباع عائلتي، وشاهداً على المزاد الخرافي الذي كان يجري في ساحة وسط مدينة كربلاء، حيث يبدأ من الساعة الثامنة صباحاً ولا ينتهي إلاَّ بعد غروب الشمس، في هذا المزاد الذي يُدمي القلب شهدتُ بعينٍ دامعةٍ بيع أثاث منازل الناس وأفرشتهم والثلاجات والمبرِّدات والتلفزيونات والأواني والملابس والسيارات والمواشي والأراضي والبساتين وحتَّى «شيلمانْ» سقوف البيوت القديمة تمَّ بيعه بذلك المزاد الفنتازي، بلْ وصلَ العوز عند أحد المواطنين المساكين إلى عرض أبنائهِ للبيع بمزاد علني لإطفاءِ ديونٍ بذمَّتهِ نتيجة هبوط صرف الدولار بطريقة مريعة، وهناك عوائل متعفِّفة باعتْ بناتها سرَّاً بسعر بخس لتجَّار البشر حتَّى تصمد بوجه حصار لئيم، مزادٌ قاسٍ وغريب وعجيب صفع وجوه الناس المعدمين والكادحين بلا رحمة. في قادم الأيام سيبدأ مزاد علني من طراز خاص على الطبقة المسحوقة، بعد قرار الحكومة برفع قيمة الدولار أمام الدينار العراقي، وليس بعيداً أنْ يشمل المزاد جميع عقارات الدولة ومن ضمنها القصور الرئاسية، ربَّما سيبدأ المزاد الحكومي بقصر السجود في قلب بغداد والقريب من نصب الجندي المجهول، سيحضر المزاد كبار المسؤولين مع أبنائهم وأقربائهم وحاشيتهم وقد يفوُّضوا من ينوب عنهم لإبعاد الأنظار، كما سيحضر أصحاب المصارف الأهلية وتجَّار بلا ذمَّة ولا ضمير امتلأت جيوبهم بالدولارات من صفقات مشبوهة مع إسناد سرّي من جهات دولية غير معلنة، ستنقل بالمباشر فضائيات مخوّلة ما سيجري بذلك المزاد المريب، وبعد أنْ يبح صوت السمسار سيرسو قصر السجود بطريقة دراماتيكية على أحد أبناء المسؤولين الأثرياء، أو على شخصية غامضة لا يعرفها غير المسؤول الذي فوضَّها للاشتراك بالمزاد. وطنٌ عجيبٌ أنت يا بلدي، بحصارٍ قاتلٍ استمر الطاغية بتشييد تلك القصور الرئاسية وبطون الناس تتضوَّرُ جوعاً، هذه القصور التي استنزفتْ ثروة آبار نفط كثيرة، أصبحتْ جميعها من حصَّةِ الذين كانوا يعارضون الطاغية، كما لو أنَّهُ يقدمها هدية سخيَّة لهم جرَّاء سقوط صنمهِ في ساحة الفردوس، معارضون من طراز خاص وحظوظهم حظوظ «…» تعرفون ما أعنيه؟ معارضون ورعون يخافون الله وردة أصبحوا أكثر طغياناً من الطاغية، وما عادت هتافات احتجاج الناس المقهورين تحت نصب الحرية تُجدي نفعاً وأصبحتْ دماء شهداء ثورة تشرين ملايين الدولارات في جيوب الانتهازيين، جُلَّ ما أخشاهُ أنَّ الدور سيصل لبيع المراقد المقدَّسة بوصفها تابعة لعقارات الدولة، سيبدؤون أوَّل الأمر ببيع مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني طبعاً؟ أجلْ ستباع البلاد بالمزاد العلني أمام مرأى العراقيين الذين سيكتفون بذرف الدمع على اللبن المسكوب، وأي لبن ثمين؟ إنها بلادكم أيها الناس التي ستباع بمزادٍ علني هو الأقسى على مرِّ التأريخ في المزايدات العلنيَّة التي جرتْ على أرض السواد.