هيبة القانون بنفاذه
علي الشكري
ورد في المثل الشعبي العراقي ” الإمام إلي ما يشّور محمد يزوره ” وربما ورد المثل على هذا النحو وبهذا التحديد ، للاعتقاد السائد أن للإمام والصالح مكانته عند الخالق الكريم ، فيثيب ويعاقب برضاه وغضبه ، في حدود أحكام الدين والشرع الحنيف .والواقع أن الوارد في الموروث من الأمثلة ينطبق على كافة مناحي الحياة ، فالعسكري الحازم أمره نافذ ، والمتسامح أمره مركون ، والأستاذ الحازم درسه مسموع ، والمتجاوز عن الإسآت درسه متروك ، والإداري المنضبط مرفقه منتظم السير ، وغيره إدارته فوضى يسودها الإضطراب . رحم الله أستاذنا البكري وهو يلقي علينا الدرس في السنة الأولى في كلية القانون جامعة بغداد ، حينما أطلق صرخته ، القانون النافذ سيف على رقاب المخالفين ، والمركون منه قطعة قماش لا تحز رقاب المخالفين ، الأول يحمل المعنى ، والثاني عدمه أولى من وجوده ، وغيابه أبلغ من حضوره ، فإما قانون نافذ ، أو غياب غير مأسوف عليه .الكون يسير بقانونين ، قانون الخالق وقانون المخلوق ، المؤسف أن الأول ضعف في الغالب من المجتمعات ، ورحل في أخرى ، والثاني حاضر قائم نافذ ، يخشاه الشعب في بلدان العالم الأكثر تطوراً ، نفاذه نادر محدود في بلدان العالم الاقل تطور والأكثر فساد ، يستهدف الضعيف الذي لاسند له ، الملتزم الذي لا يخالف ، الممتثل الذي لا يمتنع .واللافت أن شعوب البلدان الاقل تطوراً أكثر ما يبهرها نفاذ القانون في المجتمعات المتطورة ، وأمتثال الشعب لأحكامه طواعية غالبا، وقسراً على من عصا ، وتطبيقه على الجميع دون تمييز ، ومن أبهره نفاذ القانون في بلاد الغرب ، يؤرقه نفاذه في بلاده !!!!!! ويحدثونك عن تطور مجتمعات وتخلف أخرى ، ونزاهة بلدان وفساد غيرها ، ومسايرة المتغيرات واجترار الأثر . بعيداً عن قانون حمورابي وأور نمو ولبت عشتار واشنوناوتأسيساتها ، والشروع في بناءات العراق التشريعية إبتداءً من الدولة العراقية المعاصرة سنة 1921، يعد العراق الرائد تشريعاً وتطبيقاً للقانون ، تبنى دستور هو الأكثر تطور زمنياً ، في وقت كان الغالب من البدان العربية يرزح تحت الاحتلال ، شرّع قانون ينظم التعاملات المدنية والتجارية ” مجلة الأحكام العدلية 1876″ ومثل هذا التشريع كان وجوده آنذاك نادر في الغالب من بلدان أوروبا ، شرع قانون العقوبات وأصول المحاكمات الجزائية البغدادي ودخلت أحكامهما حيز النفاذ سنة 1919أي حتى قبل استقلاله ، في وقت كانت تجهل غالبية بلدان الإقليم معنى القانون ومفهوم التشريع ، ولم يكن القانون في العراق آنذاك حبر مسطّر على ورق ، ولكن نصوص نافذة ، واحكام فاعلة ، وتطبيقات شاملة ، تستهدف الحاكم قبل المحكوم ، ويقف متساوياً أمامها القوي والضعيف ، الغني والفقير ، الشريف وعامة المجتمع ، وكان الحاكم ” القاضي ” حصن يتهاوى على أعتابه الساسة والحكام ، مستقل محايد محصّن ، لا ينال منه ملك أو سلطان .وبالقطع أن أولى دلالات تعافي المجتمع نفاذ القانون ، واستقلال القاضي ، ونفاذ الحكم ، وإدانة الممتنع ، وحيث أن القضاء معافى في صحة جيدة ، يكون المجتمع حر سعيد ، واللافـــت أن النظم الانقــــلابية مدعيــــة الثورية ، ومنذ سنة 1958 كانت محطة استهدافها الأولى القضاء ، لعلمها اليقيني أن لا مكنة لحكمها والقضاء واقف متصدٍ ناهض ، لا يقيده الا النص ، ولا يؤثر في حكمه الا الظروف المحيطة بالحدث ، وليس لأي نقض حكمه ، إلا القضاء الأعلى المحكوم بالقانون ومبادئ العدالة ، وهو ما يفسر الاستهداف الذي تعرض له القضاء والقائمين عليه ، فراح التضييق يلاحقهم ، والتهديد يتبعهم ، والتلويح والتلميح وأحياناً التصريح وسيلة للتأثير في قضائهم ، لكن القضاء وبالرغم من التضييقات ظل حكمه نافذ وقراره سارٍ مفعّل .وبالقطع أن النظام القضاء العراقي اليوم يقف في مقدمات النظم القضائية العربية والإقليمية ، بالرغم من كل الظروف الاستثنائية التي يعمل في ظلها ، فالإرهاب يتهدده ، وفوضى السياسة تحاول اختراقه ، وضعف البنى التحتية تقييد عمله ، وكثرة الدعاوى تثقل كاهله ، وقلة العدد تؤخر حسمه ، وكثرة تشكيكات المحكومين تمس تاريخه وسمعته وارثه وحاضره ، والامتناع عن التنفيذ يضعف قوة أحكامه ، فالملاحظ أن إدارات العهد الجديد أصبحت فوق القانون ، وقرار السلطتين التشريعية والتنفيذية أسمى من حجية الحكم المقضي به ، فمجلس النواب والوزراء وتوابعهما لا يرون في حكم القضاء النهائي ، حاكم نافذ الا إذا ساير المصلحة ، واتسق مع المطلوب ، وتماشى وتطلع المؤسسة ، وانسجم وقراراتها ، وهو مرفوض مركون معطل لا مُعقّب عليه ولا سبيل لتنفيذه ، إذا تعارض والمصلحة وتقاطع مع التطلع ، وخالف المأمول ، وبالقطع أن لا جدوى من حكم نهائي مُعطّل ، وقرار بات محفوظ ، ويقيناً أن تعطيل الأحكام مرفوض وفق كل المقاييس ، وبصرف النظر عن طبيعة الحكم ودرجة المحكمة التي أصدرته ، لكن الخطورة أشد والمحذور أكبر ، تعطيل قرارات وأحكام القضاء الدستوري والإداري ، فأحكام القاضي الدستوري تحاكي الوثيقة الأسمى ، وتفصل بمخالفة الأدنى ، وتفسر ما غمض وأشكل من نصوصها ، وبالقطع أن تعطيلها يعني تعطيل ما شيدت عليه بناءات الدولة ، وربما تغليب الأدنى ، ويغدو السامي مخترق غير مهاب ، ومن لا هيبة له غيابه أولى من وجوده ، وإلغاؤه أجدى من بقاءه ، وحيث أن حكم الأسمى معطل فمن باب أولى يكون حكم الأدنى غائب .والملاحظ أن حكم القضاء الإداري في العراق راح أكثر تعطيلاً إذ أصبح رهين الرئيس الإداري المعني ، إن شاء فعّله وإن شاء عطّله ، فيُنفذ الحكم المتناغم ويُقبر الحكم المتعارض ، والحصيلة فوضى إدارة ، وضعف قضاء وغياب هيبة ، ولا رادع الا بمعاقبة المعرقل ، وملاحقة الممتنع ، ومقاضاة المخالف ، ومتابعة الحكم ، وإذا أثبت الواقع عدم قدرة المادة ( 329) من قانون العقوبات ، على ملاحقة الممتنع عن تنفيذ الحكم القضائي النهائي بتنوعاته ، وبصرف النظر عن طبيعة القضاء الذي أصدره .على المشرع المضي بإفراد تشريع خاص ينظم الجزاءات المفروضة على الموظف المتمرد على أحكام القضاء ، والذهاب صوب التشدد في الجزاءات ، على نحو يكفل حرمة الحكم ، ويضمن هيبة مصدّره ، فقد ضعفت الأحكام القضائية ، واستبد المعنيون بتنفيذها ، وراحت هيبة القضاء على المحك ، والحكم بنفاذه ومصداقيته ، لا بشدته ومصدّره ، ففي نفاذ الحكم حياة الأمة ، وحماية الحقوق وهيبة الدولة ، وبغيابه تحل الفوضى ، ويسود الإضراب ، ويتحول المجتمع من حياة المدنية الى شريعة الغاب .