هنا بغداد ..هنا الحضارة
مازن صاحب
كتب الصديق الدكتور منقذ داغر سلسلة مقالات عن البصرة ومعالمها المدنية بداية القرن العشرين فيما نمضي نحو العقد الثالث في القرن الحادي والعشرين واغلب مدن العراق تغادر المدنية نحو الترييف ..دعونا نتذكر بغداد ..حاضرة المدن التي تتقاذفها اليوم مظاهر الترييف ..هذه العاصمة التي كان شيوخ الخليج العربي يتمنون من السلطات العثمانية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ان يوافقوا على انضمام اولادهم الى مدارسها… هذا النظام التعليمي الذي كلن البذرة الأولى في الاصلاح الشامل بداية القرن العشرين..وانتجت دار المعلمين ومجالسها البغدادية تراثا زاخرا بفنون الآداب والثقافة ..حتى اسست الدولة العراقية الحديثة كان شارع الرشيد نموذجا للازدهار الثقافي..تواصلت فيه مسيرة الابداع ..وتحققت فيه نماء الهوية الانسانية الوطنية .. فالشواهد كثيرة من مكتبة ماكينزي حتى مقهى البرازيلية مرورا بأول مولات في الشرق الأوسط عرفت باورزدي باك ..حتى كنت احتفل بعبور جسر الشهداء والمرور في شارع الرشيد وصولا الى الباب الشرقي في متعة التجوال والتسوق .. كنا في منطقة الشواكة وسط الكرخ عبارة عن مجموعة بيوتات متصاهرة …عبر عشرات السنين من الجيرة الحسنة والثقة المتبادلة… حتى بت اليوم غريبا حين ادخل الشواكة لا اعرف فيها أحد!! يضاف الى ذلك الجامعات العريقة في بغداد والنظام المجتمعي العام بتقاليد مدنية .ما لم يتوقف عنده الدكتور منقذ داغر في استحضاره مدنية الامس الراقية في بغداد ..تبدا في السلوك الإيجابي المجتمعي ..فهناك حرمة الجيران والتطبيق الصحيح ان حريتك تنتهي عندما تبدا حرية الآخرين… ناهيك عن الأمانة في المعاملات التي تولد الثقة المجتمعية والاقتصادية..فمثلا سوق الشواكة مثل غيره من أسواق بغداد ..يرفض فيه الغش .. وهناك كبار السوق الذين لهم كلمة مجتمعية على جميع الباعة …يضاف الى ذلك وجود برلمان المنطقة الذي يقوده المختار وهو مختار بمعنى الكلمة وليس مجرد موظف حكومي…هذا البرلمان يتمثل في المقهى الرئيسي فكان مقهى( جليل ) يمثل الاجتماع التشاوري اليومي لأهالي محلة الشواكة.. فهذا مريض ..واولئك ايتاما .. وهذا راجع من سفر .. هذا النمط غير المصلحي من العلاقات المجتمعية.. ولد حالة الثقة بالنفس اولا والثقة بالاخر .. ناهيك عن التضامن المجتمعي.. في الحلقة الاوسع يظهر الترابط بين المحلات البغدادية… خلال المناسبات الاجتماعية والدينية … ويتعزز في ثقافة الانضباط المجتمعي داخل المدرسة.. فكانت المدارس تربوية اصلا للتنشئة المجتمعية ..تعرف الطفل في درس ( الحياتية) اصول الصح والخطأ… وتمارس سلوك تقويم الأخلاق …فما الذي حصل ؟؟ اولا هناك هجرات ارتدادية نحو المدينة كان القادم من الريف يجبر على التعامل مع روح المدنية ضمن الإطار العام الجمعي.. لاسيما وان الفقر كان السبب وراء هذه الهجرة ..او العمل الوظيفي..الذي يحول ابن الفلاح الى طبقة وسطى فاعلة ومؤثرة ..وكانت من ابرز الاخطاء التنموية في ترييف بغداد عدم عودة المهاجرين بحثا عن العمل في المدينة بعد ١٩٥٨ ..وإعادة نظام توزيع الأراضي الزراعية …فظهرت مجموعات سكانية بغدادية من أصول ريفية .. تجمعها في مناطق محددة ..ولد الحالات الأولى لترييف العاصمة …وهو امر طبيعي لان ما ورثوه من اخلاقيات العشيرة والبدواة انعكس كليا على ممارسة سلوكيات مجتمعية ريفية في مدنية عصرية… لذلك تصاعدت وتيرة مثل هذه الممارسات بالانتشار الافقي للعاصمة وظهور مناطق سكانية مختلطة فيها اغلبية من اصول ريفية …حتى بدت الغلبة ليس لنفاذ القانون بل للعرف العشائري في مجتمع يقدم هذا العرف على نفاذ القانون الوضعي. وكانت الحروب الطويلة من ١٩٨٠ حتى ٢٠٠٣ دربا معبدا لانهيار الطبقة الوسطى وصعود شرائح المهن التي تتعامل مع العرف العشائري.. حتى على مستوى السلوك الاقتصادي في الأسواق التجارية. ومع ان المدنية والترييف ..ثنائية عراقية ..متعارف عليها حتى في المدن ذات الطبيعة الزراعية فهناك ابن الولاية ..وابن القرية .. كانت القرى فقيرة في مظاهر المدارس والمشافي والأسواق العصرية ..ونادي الموظفين … ويوما بعد اخر أصبحت القرية أغنى مالا وسطوة اقتصادية بما جعل الكثير من القرى مستهلكة للمواد الغذائية المستوردة بعد ان كانت مصدرة لها .هكذا تمدن الريف في مظاهر الاستهلاك الاقتصادي من دون انتقال قيم المدنية اليه وظل متمسكا بتقاليد واعراف العشيرة بدلا من نفاذ القانون الوضعي…ومع اختفاء سركال شيخ العشيرة ..تنمانى ظهور مسميات الشيوخ فظهرت موجة شيوخ التسعينات ومن بعدها شيوخ ما بعد ٢٠٠٣ .. حتى باتت مظاهر الدكات العشائرية وان شملت بالفقرة ٤ ارهاب …الا ان سلاح العشائر يعد اكبر سلاح خارج إطار سيطرة الدولة لأسباب تتعلق اليوم بالواقع السياسي وحاجة الأحزاب لسطوة العشائر خلال المواسم الانتخابية .النتيجة ان ترييف المدينة بات أمرا واقعا لا مناص من الاعتراف به ..خارج سياقات نفاذ القانون..وعدم قدرة الطبقة الوسطى من انتاج مدنية عصرية متجددة تفرض وجودها في سباق الانتخابات..فليس هناك من يقرع أجراس المدنية وسط مواكب عجلات الدفع الرباعي التي تنتهك خط السير بالاتجاه المعاكس وشرطي المرور ليس باستطاعته توقيف من يركبها وفرض سلطة القانون عليه …هذا ابسط مثال مباشر على واقع ترييف العاصمة بغداد وغيرها من حواضر المدن العراقية ..مما جعل ثقافة المدنية وتطبيقات السلوك الفردي ثم العائلي فالمجتمعي تكون اقرب الى تقاليد الريف في عمق المدن العراقية ..حتى يأتي اليوم الذي يتوقف فيه كل ذلك عندما نحتكم للقانون وسلطة شرطي المرور وكفاءة الموظف في تقديم الخدمة العامة ..وكل ذلك لن يتحقق من دون وجود إباء مؤسسين للمدنية العراقية المتجددة ..ويبقى من القول لله في خلقه شؤون!!