مقالات

هنا المعقل .. هنا البصرة

هنا المعقل .. هنا البصرة (سابعةً) – منقذ داغر

مصانع الثقة في المعقل (تخطيط المدينة)على الرغم من الدلالات الايجابية الكثيرة للرقم سبعة عند سكان وادي الرافدين والمسلمين، لكني أجد ان لدي الكثير مما تبقى لاسرده عن البصرة ومعقلها مما يمكن ان يفيد في استنباط دروس الاجتماع المدني بحيث لا يمكن الانتهاء عند هذه الحلقة السابعة. قلت سابقا ان الانكليز المستعمرين هم الذين بنوا المعقل لتكون مدينة يسكنون فيها بجانب الميناء الذي بنوه حديثا.لذا كان من الضروري لهم ان تحقق هذه المدينة وظيفتها كسكن مريح وقريب للعاملين في الموانئ،وأن تراعي الخصائص المناخية للبصرة،وأن تحاكي المدن الانكليزية التي عرفوها وألفوها ويشعرون بالحنين لها. لذلك جاء تخطيط المدينة ليلبي كل هذه المتطلبات مع مراعاة التطور التكنولوجي والثقافي الذي شهده العالم في أعقاب مرحلة الاستعمار القديم وفي خضم الاستعمار الحديث خلال سنوات 1870-1914. لقد امتازت فترة الاستعمار الحديث بالكثير من التغييرات الجيوستراتيجية،والاقتصادية،والتكنولوجية وحتى الثقافية التي أثرت بشكل مباشر في بناء المعقل.وسنرى تأثير تلك التغييرات على تصميم المعقل كمدينة وبالتالي كان له ابلغ الاثر في العلاقات الاجتماعية الناشئة بعد ذلك.على عكس ما ألفه البصريون خلال الاحتلال العثماني،فقد صممت المعقل لتعكس فلسفة جديدة في العمارة تتناسب وثقافة الانكليز من جهة والتطورات التي اشرت لها سابقا من جهة اخرى.ثقافة انكليزففي الوقت الذي امتازت فيه احياء البصرة القديمة،مثل السيف(حيث كنت اذهب هناك لزيارة بيت جدي)، بالشوارع الضيقة والبيوت المتراصة ذات الفناء(الحوش) الوسطي الذي يضمن خصوصية أكبر بخاصة لنساء العائلة،فان شوارع المعقل صممت لتكون عريضة ومتوازية ومليئة بانواع الاشجار(بخاصة النخيل) وتفوح منها عطور (ملكة الليل) والرازقي والكاردينيا .وبعكس شوارع البصرة القديمة المتراصة المنازل والتي لم تكن الشمس تدخلها كثيراً،كانت كل شوارع المعقل مفتوحة بحيث تضيئها الشمس نهاراً، وتضيئها الانارة الحديثة مساءً. لذا كان يمكن للبصريين ارتياد شوارع المعقل مساءً حينما تكون درجات الحرارة مقبولة،وبذلك يتم استثمار اوقات المساء في مزيد من التواصل الاجتماعي.وكانت كل الشوارع فيها أرصفة عريضة يمكن للجميع التمشي فيها او ركوب الدراجات او ممارسة اي نشاط خارجي. بذلك تحولت شوارع المعقل الى مقصد ترفيهي لكل البصريين وليس ابناء المناطق المجاورة فحسب. ولا شك فأن ذلك ساعد على التواصل ليس بين ابناء الجيران لوحدهم بل ايضا مع كل من يزور هذه الشوارع للاستمتاع بجمالها فيزيد التفاعل الاجتماعي وتبنى علاقات جديدة وتزداد مناسيب الثقة.امتاز نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بتحولات ثقافية كبرى في الغرب عموما وفي أنكلترا خصوصاً بتُّ أدرك الان انعكاساتها على تصميم وبناء المعقل بشكل لم اكن ادركه في شبابي. امتازت تلك الفترة بثلاث تغيرات كبرى ذات علاقة بتصميم المدن هيكلياً ووظيفياً.تغيرات كبرىالاولى ان المدن لم تعد تجمعات سكانية ذات وظيفة تجارية او اقتصادية او امنية فحسب،بل باتت مركزاً حضرياً له وظائف ثقاقية وانسانية أخرى،أهمها المساواة والحرية والترفيه. فمثلا،نجحت الحركات العمالية في الغرب بانتزاع حقوق وظيفية كثيرة من اصحاب العمل كان على رأسها-مما يهمنا في سلسلتنا هذه- هو تحديد ساعات وايام العمل.بناءً عليه صار لزاماً توفير أماكن الترفيه المجتمعي التي يستطيع العاملون ان يقضوا فيها اوقاتهم في العطل او بعد انتهاء الدوام. وفي الوقت الذي كانت فيه الطبيعة (المطر،الفيضان،المناخ…الخ) تتحكم فيه باوقات العمل والرعي في الريف والبادية،فأن الموظفين والعاملين في المصاتع او الفعاليات الاقتصادية الحديثة-كالموانئ في حالتنا- كانوا اكثر قدرة على التحكم بأوقات عملهم وبالتالي أفضل في تخطيط اوقاتهم.فعاليات اقتصاديةفالموظف بدءً بمدير عام الموانئ وانتهاءً بأبسط عامل(عدا استثناءات قليلة) كان يذهب للدوام في الساعة الثامنة صباحا ويخرج في الثانية بعد الظهر لخمسة او ستة ايام في الاسبوع فقط. عداها فأنه يحتاج لاماكن يقضي فيها هو وأصدقاءه وأسرته الوقت المتبقي له. لذا كان لا بد لاي مدينة مثل المعقل ان تضم مثل هذه الاماكن.وقد كانت الحدائق العامة التي امتازت بها المعقل من بين أهم اماكن الترفيه المتاحة.فبدءً بحديقة الاندلس والتي كانت اسماً على مسمى،ومرورا بجزيرة السندباد التي حاولوا عبثا تقليدها ونسخها في بغداد وبعض المدن الاخرى،وانتهاءً بحديقة (شفقة العامل)، كانت المعقل محاطة بمثلث اخضر تلتقي فيه العوائل فيتعارفوا ويلعب اطفالهم معا وتزداد المودة والثقة بينهم. وفي نهاية كل شارع في المعقل تقريبا كانت هناك حديقة صغيرة لكنها جميلة ونظيفة وزاخرة بالورود واللون الاخضر ومدامة جيداً،مثل حديقة نمره 4 التي كنا نلعب فيها كرة القدم في نهاية شارعنا بالقرب من مقر الموانئ. وكم استرعت انتباهي ظاهرة الحدائق المحلية في لندن حين زرتها اول مرة وقلت لمرافقي الانكليزي انها نسخة من حدائق ماركيل. هذه الحدائق لم تخدم الغرض البيئي والمناخي والصحي فقط،بل خدمت غرضا اجتماعيا أهم تمثل في الاجتماع المدني الذي يصنع الثقة والتي هي السمنت الرابط لكل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الاخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى