هنا المعقل..هنا البصرة (رابعةً)
هنا المعقل..هنا البصرة (رابعةً) – منقذ داغر
التاريخ مدّن البصريينفي هذه الحلقة من سلسلة هنا البصرة..هنا المعقل،أحاول الاستعانة بالتاريخ ( كباحث اجتماعي وليس مؤرخ) للاجابة عن السؤال المحوري الذي جعلني امضي في هذه السردية البصرية والمعقلية كي أذكّر نفسي قبل الشباب بما منح حواضرنا شخصيتها المدينية؟وكيف يمكن الخروج من جدلية التريّف-التمدن بصيغة تكفل للمدن وظيفتها الاجتماعية،دون فقدان لخصوصيتها لصالح الريف؟ وسأسلك طريق العشار-المعقل للتعبير عن أصالة البصرة وحداثوية المعقل! لكني اريد التنبيه اولا ومجددا اني لا اقصد في سرديتي البصرية-المعقلية اي نزعة جغرافية انعزالية ولا اي انتقاص من اي شخص او مدينة او قرية او ريف.فبصريتنا هي جزء من عراقيتنا الضاربة اطنابها في جذوع نخلنا ومياه شطنا.معروف ان البصرة هي اول مدينة اسلامية خارج الجزيرة حيث مُصّرت عام 15 هجري اي قبل سنتين من تمصير الكوفة(ثاني العراقَين)،لكني ساركز على التاريخ الحديث للبصرة لعلاقته بموضوع اهتمامي. وعلى الرغم من ان ولاية البصرة كانت تابعة لبغداد في العهد العثماني لغاية 1875 م فأنها كانت من أهم الولايات العثمانية لا لجغرافيتها فحسب بل لتأثيرها الأقتصادي البالغ. تشير السجلات العثمانية مثلا انه في الوقت الذي كانت فيه قيمة الواردات لولايتي البصرة وبغداد متساوية تقريبا في العقد الاول من القرن العشرين فان صادرات البصرة(حوالي مليني دينار)كانت اكثر بمرتين ونصف تقريبا من صادرات ولاية بغداد! وقد ادرك البريطانيون عند احتلالهم العراق الاهمية الاستثنائية للبصرة التي كان احتلالها كأول مدينة عثمانية البداية الحقيقية لسقوط الدولة العثمانية. وكان احتلال البصرة البوابة الفعلية لدخول العراق آنذاك عصر الصناعة والتكنولوجيا الحديثة بخاصة في قطاعي النقل والاتصالات وهما القطاعين اللذين يمثلان البنية التحتية الاساسية لأي تطور.ففضلا عن ميناءها الذي شيده الانكليز عام 1919 ليكون الاكبر في المنطقة،فقد تم انشاء خط سكة حديد حديث امتد لبغداد فيما بعد.وفي عام 1923 تم انشاء اول محطة لاسلكي في المعقل كانت في نفس الشارع الذي نسكنه بالقرب من نادي(البورت كلُب). وفي عام 1922 تم نصب اول بدالة اوتوماتيكية في البصرة بسعة 800 خط. وفي الوقت الذي كانت فيه العوائل البصرية تتواصل بالهاتف خلال حقبة العشرينات والثلاثينات،لم يجرِ نصب بدالة مشابهة في بغداد الا بعد 16 عاما. ولازلتُ لليوم أذكر 7202 الذي يجعل هاتف بيتنا يرن حين تطلبه. وقد سيّرت شركة المواصلات الامبراطورية البريطانية أول خط جوي بين القاهرة والبصرة ومن ثم الى الهند واستراليا عام 1927. على اثر ذلك تم انشاء ميناء البصرة الدولي عام 1936 ليكون الاكبر والاحدث آنذاك وانشئ معه فندق شط العرب الذي كان يعد بكل المقاييس تحفة فنية وكانت كل غرفه وصالاته مكيفة. وكانت هناك 9 شركات طيران عالمية(مثل بان اميريكان) تسير رحلات بين البصرة واهم مدن العالم. فالبصرة لم تكن فقط ميناءً بحريا بل وميناءً جويا للعراق.ونظرا لبنيتها التحتية المميزة فقد باتت البصرة مدينة صناعة وخدمات (تجارية ولوجستية) لا للعراق فحسب بل لكل المنطقة. وباتت مقصدا سياحيا وحضاريا بالذات لسكان الخليج العربي . هنا أود التذكير بالاسم الذي كان يطلقه الواح الاجانب على البصرة (فينيسيا الشرق) كناية عن كثرة وجمال ونظافة انهارها التي تعد بالعشرات وتشكل شبكة مائية معقدة ومميزة كنت اتذكرها كلما زرت فيتيسيا قائلا(ربما بتحيز مقبول)،بصرتي ومجاريها المائية كانت أجمل،وبلمنا العشاري احلى بكثير من جندولها الايطالي.تشير الاحصاءات المأخوذة من وزارة الاقتصاد العراقية ان البصرة كانت تتمتع باعلى معدل تشغيل للايدي العاملة في مجال الصناعة. فهناك 11.3 شخص لكل الف بصري يعملون في الصناعة مقابل 7 شخص لكل الف في بغداد. كما ان اعلى معدل تشغيل للنساء العراقيات في الصناعة كان في مكابس تمور البصرة!هذه الاهمية الاستراتيجية القصوى للبصرة جعلتها بيضة القبان في المعادلة السياسية لتأسيس دولة العراق الحديثة بخاصة وان هناك دعوات قوية آنذاك لتنصيب الوجيه البصري السيد طالب النقيب ملكا للعراق بدلاً عن الملك فيصل الاول رحمه الله لا لكونه عراقي فقط بل لسعة علاقاته ونفوذه في كل العراق والخليج العربي. لكن يقال ان الانكليز كانوا يخشون طموح السيد طالب ونفوذه الذي قد يؤدي لتغذية الروح المقاومة للاحتلال والانفصال عند العراقيين،لذا فضلو الملك فيصل.ولارضاء السيد طالب فقد اسندوا له وزارة الداخلية وهي الاهم في الوزارة العراقية الاولى التي تشكلت عام 1920 من رئيس وثمان وزراء بضمنهم اثنان من البصريين(الداخلية والتجارة)؟ وقد اشترط السيد طالب لقبول المنصب ان يكون راتبه مساويا لراتب رئيس الوزراء وهي سابقة لم تحصل ولم تتكرر!واضح ان التكوين البنيوي والوظيفي للبصرة الحديثة جعلها مدينة ليست فقط حضرية وانما جاذبة للهجرات من المدن والارياف الاخرى في العراق،فكيف تمكنت البصرة من صهر كل تلك الهجرات ولعلدة صياغتها ضمن الشخصية البصرية المميزة؟ هذا ما سأحاول الاجابة عنه في الحلقة القادمة.