هنا المعقل.. هنا البصرة (تاسع عشر)رعد حمودي ولعنة دعاء البصريين
منقذ داغرأ
عتذر ابتداء لتوقفي المؤقت عن متابعة سلسلة هنا المعقل.. هنا البصرة التي يراد منها تحليل ومعرفة العوامل التي ساعدت في بناء الشخصية المدنية البصرية المنفتحة في ستينات وسبعينات القرن الماضي وقبل ان يدخل العراق ومعه البصرة نفق الحروب اللانهائية التي لا زلنا في خضمها بعد اكثر من خمسين سنة.وأكرر ما قلته في اكثر من حلقة من اني لست مؤرخا،ولا كاتب سيَر تاريخية. انا باحث أجتماعي يحاول رصد الظواهر التي عايشها ويشتق منها بعض الدروس التي يمكن البناء عليها لأصلاح ما يمكن اصلاحه في الشخصية الاجتماعية العراقية التي عانت منذ نصف قرن من آثار الحروب والتطرف وفقدان الثقة حتى بات الشعب العراقي أقل شعوب العالم في الثقة بالآخرين الذين يتعرف بهم لاول مرة بموجب الدراسات العالمية المختصة.في الحلقات السابقة استعرضت ركائز بناء الشخصية المدنية المتسامحة والمنفتحة في مدينتي التي نشأت بها(المعقل). هذه الركائز تمثلت في العمران الحضري ،والتعليم ،والثقافة والترفيه. اليوم أكمل حديثي عن الثقافة والترفيه اللذان يمثلان الرأس الثالث في مثلث البنية التحتية لبناء الثقة في المعقل. لم يكن نادي البورت كلاب الذي تحدثت عنه في الحلقة الماضية هو النادي الاجتماعي الوحيد في المعقل. فقد ضمت الرقعة العمرانية للمعقل ناديين آخرين هما نادي الميناء ونادي السكك. وعلى الرغم من ان عضوية نادي البورت كلاب كانت تستلزم شروط وتبعات وظيفية واقتصادية اعلى،الا ان ذلك لم يمنع نادي الميناء الذي كان بأمكان كل موظفي الموانئ وعوائلهم الانضمام له بغض النظر عن درجتهم الوظيفية،من ان يقدم حزمة من الخدمات الرياضية والثقافية والترفيهية التي تجعل معظم ابناء المعقل وعوائلهم من الرواد الدائمين للنادي. لذا لم يكن من غير المألوف جلوس الموظفين ورؤسائهم وعوائلهم مساءً في نفس المكان في النادي وهم يتجاذبون اطراف الحديث ويتحاورون ويضحكون ويلهون معاً. وفي أيام الخميس كانت قاعة النادي تغص بالعوائل ليلعبوا(الدمبلة) فيدفع الفائز عشاء الآخرين . أما السفرات التي كان ينظمها النادي للعوائل سواء في الاهوار او في الاثل او على ظهر يخت الثورة بصحبة فرقة النادي الموسيقية،والتي تضم ارقى الفنانين الذين تلألأ بعضهم كنجوم في سماء العراق فيما بعد،فقد كانت سفرات مليئة بالبهجة والفرح تعزز الثقة وتزيد من التواصل الاجتماعي بين عشرات بل مئات العوائل المنتمية للنادي.وأذا تحدثنا عن الرياضة في البصرة فلا شك ان نادي الميناء الذي تأسس عام1931سيقفز ليكون معقل الرياضة وموئل البطولات . ويكفيه فخرا انه اول نادي استطاع اخراج كأس دوري كرة القدم من فرق بغداد عام 1978. وكيف انسى ذلك اليوم الرائع من عام 1978حيث حضرت مع حوالي عشرين الف بصري غصت بهم حتى ابراج الانوار الكاشفة التي امتلئت بمن لم يتسع لهم الملعب، المباراة الاخيرة في الدوري للميناء مع نادي الشرطة والتي ان فاز فيها الميناء يتوج باللقب. وبعد ان تلاعب جليل حنون بمدافعي الشرطة واسقطوه ليسجل ضربة الجزاء الصحيحة التي منحت له مع بداية الشوط الثاني، جاءت الدقائق الاخيرة للمباراة لتشهد ضربة جزاء للشرطة ولتحبس انفاس الجمهور.كاد قلبي ان يتوقف حينرأيت ان من سيتصدى للضربة هو كابتن الشرطة والمنتخب،رعد حمودي. لكن الله استجاب لدعاء الوف البصريين فتصدى حارس الميناء ستار فرحان لضربة رعد حمودي واطلق بعدها الحكم صافرة النهاية لننطلق فرحين وراقصين وهاتفين في شوارع البصرة حتى ساعات متاخرة من الليل. ان نادي الميناء الذي كان يلعب له 5-6 لاعبين في المنتخب في بعض الاحيان مثل رحيم كريم وهادي أحمد وعلاء أحمد والمرحوم صبيح عبد علي وعبد الرزاق أحمد وجليل حنون كان ناديا لكرة القدم تقصده الفرق الخليجية والايرانية والدولية للعب معه. كما ان منتخب العراق كان كثيرا ما يلعب مع منتخب البصرة الذي معظمه بل كله تقريبا من الميناء استعدادا لاستحقاقاته الخارجية. ولا انس حين فاز منتخب البصرة(الميناء) بخمسة اهداف على منتخب العراق الذي كان يستعد لبطولة دولية آنذاك مما ادى بالمسؤولين لسحب معظم لاعبي الميناء للمنتخب.ويكفي نادي الميناء فخرا ان بطله الرباع عبد الواحد عزيز هو العراقي الوحيد الحائز على ميدالية اولمبية.كانت هناك ثلاث سينمات واكثر من مسرح في المعقل وجميعها تغص بالرواد لحضور برامجها وفعالياتها التي لا تنقطع. اما المكتبة العامة في المعقل فقد كانت اكبر مكتبة في البصرة وفيها كل وسائل القراءة والراحة التي يحتاجها روادها الكثر. وكطلاب في الثانوية،كثيرا ما كنا نرتاد المكتبة للقراءة فيها لانها توفر لنا جوا دراسيا رائعا. بأختصار فأن مساء المعقل كان لا يمتلىء فقط بروائح الياسمين وملكة الليل والرازقي،بل كان ايضا يضج بالحياة الاجتماعية الترفيهية او الثقافية. هذه البيئة المريحة والخصبة بكل انواع الفن والثقافة والرياضة خلقت جيلاً متسامحاً منفتحاً غير طائفي متصالح مع نفسه ومجتمعه. ولولا الحروب العبثية التي زُج بها العراقيون والبصريون فدفعت مدينتهم فاتورةً لن تدفعها مدينة عراقية أخرى لكان الحال غير الحال،والمآل غير المآل. في الحلقة القادمة والاخيرة،أحاول تلخيص اهم ما اردت قوله في هذه السلسلة التي آمل ان تخرج في كتاب قريبا.