ناديا تويني .. تاريخ فراشة لم يكتب
وكان صيف 1983، طوى الغياب من ناديا التويني الامل والألم ومكث من بعدها العطر الذي نثرته في شعرها عبر: “نصوص الشعراء”، “حزيران والكافرات”، “عالم الأرض”، “عشرون قصيدة من اجل تاريخ”، و”محفوظات عاطفية”.
وربما ما لم يكتب في حياة سارت بين الرجاء الأشد والألم المخزون بين الضلوع الذي تصفّى شعرا .
يوم غربت شمس “ابنة بعقلين” فقد الشعر اللبناني بالفرنسية أحد أصواته الشجّية، ومن قبلها : جورج شحادة، فؤاد غبريال نفاع، واندريه شديد فاتّشح الشعر بالسواد.
ناديا حمادة ابنة السفير محمد علي حمادة (1935-1983) ما زالت جغرافيا حيّة للحبّ والموت والوطن.
ناديا تويني التي انطلقت مع الضباب، عندما توقف قلبها الابيض، انقسمت الى اثنتين !!
هي شاعرة لبنان بلغة “فولتير” و”جان كوكتو”.
“لبنان قصائد عن الحب والحرب” نصوص نادرة لناديا تويني بالانكليزية.
وقد جاءت ترجمتها مرهفة تتخطى حاجز اللغة وتحفظ نورانية الايحاء والايقاع .. حتى بعد ان طواها الموت تحت “جناحيه”. قبل وبعد صدمتها.
صدمتها الاولى بفقدان وردتها “نائلة”:
“اخفضه صوتي لكي اسمع، أعلى،
صرخة بلادي
ولأقول وجعي أني لأحيا
زرعت لا ضغينة
واني خلطت في ما بينها الجذور
وخلته البحر جبل”
هناك في بعقلين بدأت حكاية طفلة جميلة اسمها نادية حمادة وصارت فيما بعد نادية تويني.
صارت مهندسة العطر وطفل يبكي في ليل المرايا.
وهي جوهرة الا أنها أجمل، لكونها انسانية، وهي البحر والريح، والجزر والشمس، والاكتشاف السرمدي (راجع كتاب النثر ص 8).
تعود ناديا تويني تتنهّد الوطن الغارق في النار، تعود مع قصائدها التي تشبهها وحدها.
هذه الطفلة الكبيرة التي رحلت نحو الصفاء. احبت وطنها لبنان شفويا وخطيا، شعرا ونثرا وغنّته في كل دواوينها التي كتبتها بفرنسية أنيقة عالية.
كتاباتها كسلوكها يوم كانت محررة في “اللوجور”.
احترقت بأوجاعها وعذاباتها، وهي التي آلمها احتراق الفراشات.
الاديبة والباحثة الشاعرة مي المر خصتها بقصيدة “صلا” قالت فيها :
“ربّي سألتك لبنان ليش الغيم
غيّم وصيّر صبحها حكاية ظلام
وأصرخ بحرقة رد عنها الضيم
ولا بقى تقبل نحكي لغيرك كلام”
ناديا التويني التي اغتسلت بأوجاع الشعر، ونمت كالزهرة، فجاءت كلماتها كرائحة الورد.
و”لبنان عشرون قصيدة من اجل الحب” عنوان المجموعة الشعرية للشاعرة ناديا تويني.
عن مدينة جبيل كتبت:
“هادئة كفكرة صائبة
قديمة كالحقيقة
انها، يا حبي، جبيل بلونها العنبريّ”.
وعن مدينة طرابلس عاصمة الفيحاء:
“مدينة بأوراق ثلاث
فسيحة كابتسامة
لا هياكل لا صلوات لتدير الارض”.
اما عن مدينة صور:
“أنا صور ذات اليدين المائيتين
استقر هنيهة في سلام النسيان
أنا ملكة فينيقيا التي عرّاها الدهر
تسير في الماء حتى المركب،
حافية القدمين”.
“مختارات شعر ناديا التويني”، “معالم الأرض”، “محفوظات عاطفية لحرب في لبنان”، ثلاثة كتب نقلت الى العربية من شعر ناديا التويني الفرنسي.
وتضمنت المختارات نصا نشر عام 1970 وهو “فصل في الشرق” وقصيدتين من وضع الشاعرة بالعربية.
وتنتهي “مختارات” بمقاطع من مسرحية “الفرمان” الغنائية سيناريو ناديا تويني عام 1970 بمشاركة الشاعر طلال حيدر وشهادة من انسي الحاج.
في “حزيران والكافرات” وفي قصيدة “ما هي الحرب” كتبت :
“يقولون ان الريح ما عادت تحمل رسالة
ان الحقد وحده حقيقي
والرمل مضاء
يقولون
الشر هنا في كل ذرة من حجر
تحت الماء الذي يمتنع”
وفي “فصل في الشرق” كتبت: “وحين سيجيء دوري، ساكون جائعة للموت، حينئذ سأنساك وتصير حاجتي اليك كضوء غطاء الصباح، يكفن الالوان الموت، حياة الحياة، ارض الارض، ما لا يمكن تقاسمه، أعطيك الحياة ، واحتفظ بموتي”.
أول مجموعة شعرية لناديا التويني صدرت عام 1963 بعنوان “النصوص الشقراء”، وقد توّجتها الاكاديمية الفرنسية شاعرة عام 1972 ومنحتها جائزة لمجموعتها “قصائد من اجل حكاية” الصادرة عن منشورات “بيار سيفرز” في باريس. وعام 1976 نالت وسام “الثريا” ويتعلّق بالناطقين بالفرنسية وحوار الثقافات.
قبل رحيلها كتبت :
“هكذا تنهار جسور بين تاريخ وتاريخ
هكذا ارقام
هكذا ذكريات خريف مطلع الحياة.”
وفي محفوظات عاطفية لحرب لبنان”:
“في فم المدن الأسود
يدق جرس الزهور الحزين
مات البلد جمالا
مقتولا بقهقهة
قنبلة في الارض حفرت بسمة”.
هذه الأسطر آخر ديوان شعري لناديا تويني، صدر في باريس من منشورات “بوفيز” عام 1982.
شعر جميل، يلفنا بوشاح داخلي، نشعر معه، بأننا دخلنا الى صميم الحروف.
ناديا تويني تلجأ الى الشعر كالطفلة المدللة، باحثة عن لعبتها قبل النوم، تخيط لها الأحلام، وتغفو على صدرها اللعبة.
قصائدها تأتي من أبواب متعددة.
تقول: “انا انسانة خلقت بحزن دائم حتى عندما أضحك أظل حزينة، الحزن لا يفارقني والجمال مرتبط عندي بالعدم.”
وتقول في كتابها “حزيران والكافرات”: “الجمال ليس الخلود، شرط الجمال انه ليس دائما”.
ذاكرة ناديا تويني ترتدي لباس الحفّار المكتشف.
“حزيران والكافرات” كلمات تفيض بالمعاني والأحاسيس مع الامكنة والتاريخ.
في رثائها كتب نزار قباني :
من أصعب المهمات أن يكتب الإنسان تاريخ فراشة.
فتاريخ الفراشات يكون عادة مكتوباً على أجنحتها بالأخضر، والأزرق، والبرتقالي.
ناديا تويني، هي فراشة منقوشة بالشعر من رأسها حتى قدميها …
كانت جميلة كلبنان، صافية كينابيعه، نقية كثلجه، عالية كأمواجه، وطموحة كمراكبه، ومغسولة بالوجع كأغانيه.
كانت تشبه لبنان كثيراً. لذلك عاشا معاً وانفجرا معاً.
لم يكن معقولاً أن يموت لبنان وتبقى ناديا تويني، ولا كان معقولاً أن يتوقف قلب ناديا تويني عن النبض، ولا يتوقف قلب لبنان.
متابعة : الأولى نيوز