مَن يقوى على حكم العراق؟
فارس الخطاب
العراق مليء بالأحداث في كل مراحل التاريخ، ويكفي أن نستعرض تاريخه الحديث نموذجاً عن سجلّه المليء بالإنجازات العظيمة والإحباطات المؤلمة والنهايات الحزينة لحقبٍ ما ظنّ أحدٌ أنها ستؤول بها مجريات الأحداث إلى ما آلت إليه.نعم، يكفي تاريخه الحديث منذ تشكيل الدولة العراقية عام 1921، لتتشكّل أمامنا بانوراما تستحق التأمل والدراسة واستنباط الدروس الممكنة منها. فمن الرقيّ الإنساني الحضاري المتسارع إلى الانقلابات الدموية، ومن الحكم الديمقراطي إلى الحكم الاستبدادي، ومن محاولات الاستقلال السياسي والاقتصادي إلى عودة احتلاله من دول عظمى، وهي الفترة الأصعب، برأي المراقبين، والأهم برأي العراقيين، لكونها التي قلبت الطاولة على مستقبل العراق والعراقيين، وبدّدت كل ما أُنجز منذ عام 1921.
أزمة الحكم في العراق وما نراه من تردٍّ سياسي غير مسؤول ما هي إلا نتاج فترة احتلال العراق دولياً وإقليمياً، حتى باتت العملية السياسية هناك مطلوبٌ استمرارها من قوى الاحتلال، كلٌّ حسب أجندته، وأصبحت عيون كثيرين من المنخرطين فيها على الدولة التي تؤمن لهم الاستمرار فيها وضمان حصولهم على المكاسب المتأتّية من عمليات الفساد “المطلوبة”
.في العراق الآن، وبعد ما يناهز العشرين عاماً على احتلاله، 25% من سكانه، 51% من سكان جنوب العراق تحديداً، هم تحت خط الفقر، بحسب تقديرات وزارة التخطيط العراقية. يستورد العراق من 50 إلى 70 مليون متر مكعب يومياً من الغاز الإيراني لأغراض توليد الطاقة الكهربائية (المقنن)، فيما يحرق أكثر من 16 مليون متر مكعب يومياً، وهي كمية تكفي، بحسب خبراء، لتوفير الطاقة الكهربائية لنحو ثلاثة ملايين منزل (العراق في المرتبة الثانية عالمياً، بعد روسيا في حرق الغاز المصاحب لعمليات إنتاج النفط).
مشكلات معقدة مع إقليم كردستان العراق تطغى عليها مشاريع ورغبات دولية لإبقاء الأمور مضطربة مع الحكومة الاتحادية في بغداديشكل التغوّل الخارجي في مقدّرات العراق سمة نظامه السياسي القائم، ليس فقط من الناحية السياسية، بل أيضاً من نواحٍ رئيسة أخرى؛ اقتصادية وثقافية وعسكرية؛ فالولايات المتحدة وإيران طرفا الشّد والجذب بين كل المكونات السياسية، ويرسمان، بمعزل عن إرادة العراقيين، مستقبل حضورهما الاستراتيجي في العراق، حتى عندما يستشعر أحدهما تجاوز الآخر على مناطق نفوذه يستخدم الضربات العسكرية التكتيكية المحدّدة لتنبيهه، كما حدث ويحدث من ضربات صاروخية، ومن خلال الطائرات المسيّرة، على أهداف في أربيل وقواعد أميركية داخل العراق، وما يقابله من ضربات أميركية أقل عدداً لكنها أقوى وأمضى.
في العراق سلاحٌ متفلتٌ ومليشيات ولائية لا تأتمر بإمرة الدولة وأجهزتها الأمنية الرسمية، تتحكّم بنبض الشارع العراقي بنسب متفاوتة، لكنها في كل الأوقات والأماكن موجودة ومؤثرة في إنسيابية الأمن، وخصوصاً في مناطق بغداد وديالى ووسط وجنوب العراق. لذلك، بسبب هذا الانفلات الأمني والتفّلت من العقاب، استشرى الظلم وكثرت المظالم، وباتت جرائم خطيرة كالتغييب القسري والقتل الممنهج والاختطاف وتلفيق التهم الكيدية وغياب العدالة سمة المجتمعات القائمة هناك.أبلغت الأمم المتحدة العراق بوجود 12 مليون عراقي أُمّي، وبسبب عدم وجود تخصيصات مالية للجهاز التنفيذي لمحو الأمية، يتّجه العراق نحو الأمية وليس محو الأمية (بحسب عضو نقابة المعلمين العراقيين، ناصر الكعبي)، كذلك هناك مشكلات جدّية في مستويات التعليم وجودته وأنظمة الامتحانات وغياب الأهداف السليمة لعملية التعليم، بسبب التدخلات السياسية والتسرب المدرسي والتعاملات الأخلاقية القائمة على الفساد بين أطراف العملية التعليمية وتهالك معظم البنى التحتية للمدارس العراقية، وذلك كله وغيره جعل من مهمة التعليم مسألةً بالغة الخطورة على حاضر قيادات العمل وأدواته في العراق مستقبلاً.مشكلات معقدة مع إقليم كردستان العراق تطغى عليها مشاريع ورغبات دولية لإبقاء الأمور مضطربة مع الحكومة الاتحادية في بغداد. فمع قانون النفط والغاز، إلى موضوعة المناطق المتنازع عليها والمشكلات المالية المتعلقة بإيرادات الإقليم، وأيضاً حصصه في الميزانية العامة، مع مدخلات باتت تشكل عوائق حقيقية ترتبط بادعاءات إيرانية بوجود مقرات للموساد الإسرائيلي في مناطق بعينها داخل الإقليم (وهو ما تنفيه إدارة الإقليم تماماً).
أزمات متكرّرة تضع الناس في زوايا حرجة كما تقف الحكومة فيها متفرّجة بسبب اعتمادها في الأصل على استيراد كل شيءالتصحّر وأزمة جفاف الأنهر ونزوح سكان مناطق الجنوب تحديداً بسبب فقدانهم الأراضي الزراعية وانعدام المصادر المائية المطلوبة للشرب الإنساني، أولاً، ثم لقطعان الحيوانات الزراعية بما يشكل أخطر وأقوى أزمة وجود حقيقية للعراق طوال تاريخه. أزمات متكرّرة تضع الناس في زوايا حرجة كما تقف الحكومة فيها متفرّجة بسبب اعتمادها في الأصل على استيراد كل شيء، وجديد هذه الأزمات ما يشهده كل العراق من أزمة كبيرة لوقود السيارات.لا أريد أن أتحدّث عن الاقتصاد في العراق؛ فالحديث عنه يعني أن لا اقتصاد في هذه الدولة، ويعلل وكيل وزارة التخطيط للشؤون الفنية، ماهر حمّاد، تراجع الخطط الاقتصادية للعراق بالقول: “كل إطاراتنا منذ عام 2003 وقبلها من حروب مرت لم يرَ العراق فيها هدوءاً، ولا سيما أن رأس المال يحتاج إلى أمن وسيادة واضحة للبلد”.
وإذا ما علمنا أن أكثر من 60% من ميزانية العراق تصرف رواتب، فماذا لو انخفضت أسعار البترول عدة سنوات؟ هل سيستدين العراق من أجل دفع الرواتب؟ ولنا أن نتخيّل حجم الأموال المخصّصة لمشاريع البنى التحتية والتعليم والزراعة في العراق التي يقول عنها وزير الزراعة، صالح الحسني، “إن العراق يستورد مواد غذائية غير ضرورية، مثل الفجل والبصل والنبق، بملايين الدولارات، علماً أنها تُنتج محلياً”.
وتشير الكوارث المتمثلة بالحرائق المتعمّدة للمحاصيل الزراعية ونفوق الأسماك في البحيرات والأنهر وغيرها من مفردات الثروة الحيوانية والزراعية إلى وجود سبق إصرار وترصد لجعل العراق متخلفاً عن تنمية ثرواته الطبيعية، لا بل إفقاده القدرة على حمايتها واستثمارها لأسباب كثيرة، ليست مجال هذا المقال، لكنها لا تخرج عن دائرة المتحكّمين بحاضره ومستقبله من قوى الاحتلال المشار إليها سابقاً.
من أجل كل ما تقدّم، تُرى، مَن يقوى على حكم العراق؟ ومَن سيمتلك أدوات القوة والقدرة على إدارة كل هذه الملفات، بعدما أوغلت القوى المسيطرة على أوضاع هذا البلد، بمساعدة أدواتها من داخله في تحطيم إرادة الإنسان العراقي، وتقليص مساحة ارتباطه بقدرة الدولة على رفع المظالم، بل منعها والتوجه إلى بناء الإنسان وفق معطيات كل المجالات التي استهدفت وتحولت إلى رُكام مقيت.