من نبض الشارع
من نبض الشارع – طالب سعدون
قالوا في الاعادة إفادة ، وفي التذكير عبرة وتبصير .. فهل لهذه (الوصفة المعرفية) فائدة ترجى وصدى مناسب وفعل على الارض عندما نعيد ونكرر الكتابة عن مواضيع معينة سبق أن كتبنا عنها ، تمس حياة الناس وراحتهم ، خاصة الخدمات البلدية أو المعيشية؟..الواقع يقول لا .. فقد كُتب عن واقع الخدمات ودرجة المعاناة الكثير دون جدوى..– صيف يعقب آخر وأزمة الكهرباء قائمة منذ سنوات طويلة ، ولا نعرف الى متى تستمر معاناة العباد ، ومتى تسد حاجة البلاد من الطاقة ، لكي تدور عجلة الانتاج وتشغل العاطلين ويتخلص الناس من المولدات الاهلية بعد إن انتشرت في الاحياء كالسرطان ، بشكل عشوائي ، دون ضوابط ، ومراعاة لجمالية المدينة ، ودون إعتبار (لراحة) البيوت ، وكأن قدرها أن لا تستنزف هذه المولدات أموالها فقط ، وإنما تسلب راحتها أيضا ، بدخانها ومخاطرها وضجيجها واسلاكها الممتدة كشبكات العنكبوت بين البيوت دون تنظيم .– وشتاء يعقب أخر والمعاناة في تزايد بسبب سوء الخدمات ايضا .. خذ بغداد مثلا .. كانت مقياس التحضر ، والرقي ، والجمال ، والدلال على مر العصور ومضرب الامثال في العيش الرغيد ، فيقال لمن تبدو عليه النعمة والخير، الذي يصل الى حد الترف المبالغ فيه (أنت متبغدد)..تلك عبارة طالما سمعناها في الافلام والمسلسلات والاغاني ومنها أغنية كاظم الساهر (متبغدد علينا واحنه من بغداد) ..فهل لأحد اليوم من خارج بغداد ، من العراق أو غيره ، أن يضرب بها مثلا في الدلال والنعيم والترف ، وهو يرى حال بعض مناطقها في الشتاء ، وهي تطفو على بحيرات من المياه والبرك والاوحال .. تحاصر البيوت وتعكر النفوس، وتلال الاوساخ والانقاض والنفايات تخنقك في كل فصول السنة ، تبدو وكأنها اصبحت جزءا من المعالم الطبيعية والمشاهد المألفوفة في الكثير من المناطق ..– الشارع يعطي صورة طبيعية بلا رتوش أو تزويق عن البلاد ونظامها ..والنظافة سر جمال الشارع ، تعكس مستوى النظام ، وهيبة الشارع ، ومدى إحترامه وعدم الاعتداء على حرمته لكي يحافظ على جماله ..النظافة مهمة ليست بالعسيرة ، أو تتطلب أموالا كثيرة بل هي في متناول اليد ماديا وفنيا ، ولا تحتاج الى تكنلوجيا متطورة ، وخبرات أجنبية ، وعمالة مستوردة ، بل تحتاج الى عامل نظافة ، ومشرف ميداني ، ومتابعة من أعلى المستويات للعملية ، وتماس مباشر بالشوارع والازقة ، والاحياء ، وتطبيق النظام ، والقانون ، ومساحات خضراء من إنتاج مشاتل العاصمة ، وهي أمور بسيطة في مقدور أي مسؤول بلدي أن يقوم بها في منطقته ..أتذكر انه في الستينات من القرن الماضي كان في مدينتنا مراقب بلديه ، مهمته مراقبة الشوارع والازقة والاشراف على اعمال النظافة وعموم الاعمال البلدية .. مهمته الوظيفية في الشارع .. أي أن مكتبه في الشارع وهو على تماس مباشر بالمواطنين ، يلبي طلباتهم بالايعاز الى عمال النظافة دون تأخير ..المسؤول – أي مسؤول في الدنيا ، مهما كانت درجته الوظيفية ليس عابر سبيل في الشارع .. بل مراقب ومنفذ لما يحتاجه الشارع ، وينبغي أن يكون في تواصل دائم معه ، فمكتب المحافظ المفتوح مثلا هو الشارع ، يمارس من خلاله واجبا قياديا وطنيا يتمثل في معرفة نبضه ، وقياس مدى صحته وسقمه ، لكي يصف له العلاج المناسب للشفاء ليمارس بعدها حياته بصورة طبيعية ..والزائر يعرف مستوى البلاد من نظافة شارعها وانسيابية المرور والنظام والالتزام ، ومن شرطي المرور الذي يعد (ممثل الدولة) الدائم في الشارع …يعرف من الشارع قوة البلاد الاقتصادية ، وإنتاجها من خلال المعروض من البضائع الوطنية قياسا بالاجنبية ، ومنه يعرف مستوى تعليمها وثقافتها وصحتها ومكوناتها ، ويعرف نسبة الفقر والبطالة ، ودور شبابها ، ويعرف هيبة الدولة من درجة تطبيق القانون ..باختصار .. الشارع مدرسة يتعلم منها الجميع .. وهو إستطلاع دائم على الهواء للحالة السياسية في أي بلاد في الدنيا ، وكتاب مفتوح مكتوب بكل اللغات ، ليس بحاجة الى مترجم ، وهو فولد اعلامي يشمل البلاد كلها ، يجده الزائر أمامه أينما حل فيها ، ويعكس حالها بدقة عالية .الشارع .. استطلاع مفتوح .. ينعكس عليه العمل والفشل .. تعرف من خلاله أداء الدولة ، وإنجاز الحكومات.. تعرف من خلاله طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم .. اي العلاقة بين الشعب ومصدرالقرار ..الشارع يمثل الراي العام في اي بلاد .. هو سوق حرة للافكار والاراء والمقترحات وعرض واقعي حقيقي لمستوى المعاناة أوحالة الرقي والتطور .