من بنى المعقل كان إنسانياً
هنا المعقل.. هنا البصرة (ثامنةً)
من بنى المعقل كان إنسانياً – منقذ داغر
كنت انوي الانتهاء من سرد علاقة تصميم المعقل وميناءها بالارث الحضاري المدني للبصرة عموما وللمعقل خاصةً في الحلقة الماضية،لكن شغف القراء وتشجيعهم جعلني احفر عميقا في الوثائق البريطانية المتاحة عن تصميم وبناء المعقل لاكتشف هل ان افتراضاتي وذكرياتي عن علاقة تصميم المدينة بالشخصية المعقلية صحيحة؟ وهل ان ما تحتفظ به الذاكرة المعقلية من احداث وشوارع ومباني يطابق الحقيقة ام فيه مبالغة مخلوطة بنستالجيا ضخمها الواقع المرير الذي يعيشه العراق والبصرة والمعقل،اليوم؟ والحق فاني وجدتُ الوثائق والحقائق أجمل من الخيال وأبهى من الجمال.لقد أطلعت على معلومات لم اجدها متاحة للقارئ العراقي والبصري ممن لا يجيد الانكليزية لذا قررت سردها هنا ،بخاصة وانها توضح وتدعم افتراضاتي التي طالما اكدت عليها بأن تصميم المعقل جعلها بوتقةً لصهر كل الخلفيات الاجتماعية والثقافية لساكنيها في شخصيةٍ مدنية واحدة. وأذا كان المصريون يقولون ان من بنى مصر كان (حلواني) لحلاوة القاهرة،فأني وبعد الذي عشته وقرأته،أجزم ان من بنى المعقل كان فناناً عالماً ،بل أن من بناها كان انساني! لا اقصد هنا تمجيد الاحتلال البريطاني فأنا أعرف تماما ما يعنيه الاحتلال في كل مكان وزمان، لكني حين اقارنه بالاحتلال العثماني أوحتى الاحتلال الامريكي للعراق فأني المس جوانب انسانية وثقافية وفنية تدل على حنكة سياسية عميقة. صحيح، انها كانت مسخرة لخدمة بريطانيا اصلا لكنها خدمت العراقيين والبصريين بشكل كبير،حتى لو لم يكن مقصوداً.وهاكم القصة منذ بدايتها.حين أرسل البريطانيون فيلق المشاة الهندي IFED لاحتلال البصرة كأول مدينة عثمانية تسقط في يدهم،فأن ذلك لم يكن فقط لأضعاف العثمانيين الذين تحالفوا ضدهم في الحرب العالمية الاولى،بل الاهم من ذلك حماية استثماراتهم المهمة في شركة النفط الانكلو-ايرانية ومصفاها في عبادان على شط العرب وضمان استمرار تدفق البترول لاساطيلهم المحاربة ولامبراطوريتهم الواسعة.هذا المصفى الذي اكتمل بناءه عام 1912 كان الاكبر على مستوى العالم لذا لم تتردد بريطانيا لحظة في قرارها لاحتلال البصرة لأن شط العرب كان شطاً عراقياً بالكامل حسب كل المعاهدات العثمانية الايرانية وآخرها في عام 1913. لذلك مان لابد من احتلال البصرة وشط العرب لتحقيق هذا الهدف.بعد احتلال البصرة عام 1914 ادرك البريطانيون لاعتبارات جيوستراتيجية كثيرة انهم باقين فيها،فقرروا بناء ميناء يخدمهم عسكريا واقتصاديا،ووضع خطط لتطوير البصرة، بخاصة وان ميناء البصرة القديم لم يكن مناسبا للمهام التي كان يخطط لها البريطانيون.كلف الكابتن دوكلاس ميدوز (توفي 1941) من الهندسة الملكية البريطانية بوضع خطط تطوير البصرة وميناءها. وقد وصفت مجلة الهندسة البريطانية ما قام به ميدوز بأنه اقتراح لبناء(مدينة المستقبل، التي تتضمن شبكة من الطرق وسكك الحديد تحيط بالميناء، ومركز بلدي للفنون والجمال ،ومناطق سكنية مقسمة على اساس عرقي) لان من ساهم في بناء المعقل (كما سنرى لاحقا) يمثلون جنسيات واعراق مختلفة. ولم يتضمن المخطط شمول اي منطقة بصرية قديمة بل اريد أقامة مدينة حديثة وجديدة تماما. كما تضمن التصميم جادة كبرى تحاكي الاليزيه-كما يقول ميدوز- فضلا عن جسور حديثة،وبنايات تستلهم التراث المعماري العراقي وزخارفه من جهة وتجربة العمارة الهندية من جهة اخرى،بخاصة وان من خطط الميناء كان المهندس البريطاني جورج بوكانن(توفى 1941 ايضا)،والذي تم جلبه من مومباي. حين قرأتُ هذه الوثائق أدركتُ سر الاقواس وال(عكادة)والطابوق البغدادي والزخارف العربية التي كنت مبهورا وانا انظر لها في بنايتَي مصلحة الموانئ ومطار شط العرب على الرغم من ان من صممهما كان بريطاني! لكنه كما تقول مجلة الهندسة البريطانية كان معجبا بالعمارة العراقية. كما ادركتُ سر التشابه بين فندقي شط العرب ذي ال 101 غرفة والملحق بالمطار وفندق مشابه له في مومباي،ويبدو ان من صممهما هو نفس المهندس او من نفس المدرسة.لقد استغرب احد المهندسين البريطانيين الذين درسوا فيما بعد تصميم مدينة المعقل وميناءها من البذخ والكلف العالية لذلك المشروع(بناء ماركيل) في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا تمر بحالة تقشف نتيجة الحرب العالمية الاولى،وتساءل: ما الحاجة لمثل هذه المدينة الباذخة؟ ويبدو انه لم يجد تفسيرا سوى ان البريطانيين آنذاك لم يبنوا المعقل ليكون معسكرا حربيا،ولا ليكون عقدة مواصلات استراتيجية لهم، ولا حتى ليكون محل سكن مؤقت لهم ولقواتهم ولموظفيهم،بل بُني ليكون جزءً من الامبراطورية البريطانية،القوة العالمية الاعظم آنذاك!