من الواقع الريفي العراقي
ابراهيم المحجوب
جلست الجدة تحدث احفادها عن شخصية مجهولة بالنسبة لهم شخصية عمهم الذي فارق الحياة شهيداً في احد المعارك في الثمانينات في جنوب العراق وهو في عز شبابه ولم يتزوج بعد قائلة لهم..اعلموا يا احفادي ان هذا البيت الذي مازال بعضكم يسكنه تم بناءه على نفقة الدولة كوننا من عوائل الشهداء فلقد كان عمكم سعد احد شباب هذه القرية تربى وترعرع فيها اكمل دراسته الابتدائية في مدرسة القرية الطينية القديمة قبل ان تكون مدرستكم الحديثة ببنائها المعماري الجديد موجودة وذهب عند احد اقاربنا في مركز الناحية ليكمل دراسته المتوسطة كوننا كنا نعاني من عدم وجود لدينا سوى المدرسة الابتدائية وبعدها توجه الى المدينة لإكمال دراسته الإعدادية وكنا نذهب لزيارته انا وجدكم رحمه الله بين الحين والآخر وهو يأتي الينا بداية كل عطلة رسمية لحين انهاءه دراسته الإعدادية وقد كان الاختيار لأغلب ابناء مناطقنا التوجه للدراسة في الكليات والمعاهد العسكرية لان الحكومة تقدم امتيازات خاصة لخريجي هذه الكليات والمعاهد ولأننا كما تعرفون ابناء طبقات فلاحية محرومة من اغلب حقوقه حيث لم تكن جميع القرى تنعم بالطاقة الكهربائية ولم تكن لدينا مشاريع اسالة للماء الصافي.. وكانت في حينها كل الكليات والمعاهد العسكرية في العاصمة بغداد تلك المدينة البعيدة عنا والتي يتطلب السفر اليها الركوب اما بالسيارات او القطار الاكثر وسيلة للسفر في حينها… وصبرت عائلتنا على هذه الظروف واستطعنا ان نؤمن المصروف الخاص لعمك سعد في فترة دراسته لحين تخرجه من الكلية والتي اصبح بعدها ضابط في الجيش وتم تعيينه في احد الوحدات العسكرية في جنوب العراق ويأتينا بإجازة كل شهر تقريبا حيث كان الحرب تدور رحاها ونسمع اخبار المعارك من خلال المذياع وشاشة التلفزيون الذي دخل بيوتنا حديثاً… وفي كل معركة تدخل العوائل في دوامة خوف وحزن على سلامة ابنائها ..كان قلبي يحدثني بأنني سوف افقد احد ابنائي الاربعة في احد تلك المعارك وكانت الهواجس تراودني ليلاً ونهارا ولكنني عاجزة ان افعل اي شيء لان وضع البلاد عموما يشبه وضع عائلتنا…مرت على عمك سعد عدة اجازات وهو يأتينا ومعه يأتي العيد والفرح والعائلة بل القرية كلها تحتفل معه بإجازته كان مرحاً وشجاعاً يحبه ابناء القرية صغيرهم وكبيرهم نساءها ورجالها وكان جدكم رحمه الله يتكلم معه في كل اجازة في موضوع الزواج الا انه كان يرفض ومازلت اتذكر مقولته وسبب رفضه بانه غير مستعد ان يعلق فتاة مسكينة بمستقبل مقاتل عسكري يكون الموت اقرب له في كل معركة… كانت هذه الكلمات تزعجني كثيراً وبعد فترة قصيرة وفي احد الايام وبينما نحن نشاهد شاشة التلفزيون وكانت العائلة جميعها تجلس فوق تلك الدكة الطينية حيث كانت النشرة الاخبارية تذاع الساعة الثامنة مساءً واذا عمكم سعد يقف مع مجموعة من زملائه وتمنحهم الدولة انواط شجاعة لتميزهم في المعارك وحصل على تكريمه بسيارة من نوع تويوتا سوبر في حينها وماهي الى ساعات قليلة ليصل الينا وابناء القرية جميعهم بانتظاره وكانت فرحة لا يمكن وصفها فالجميع يتفاخر بهذا البطل الذي حصل على هذا التكريم.. ولكنني شعرت في حينها يا احفادي شعور غريب جدا وخاصة عندما حدثني ابني عن اخوانه الذين استشهدوا معه في جبهات القتال فتذكرت الحزن الذي يخيم على امهاتهم في هذه اللحظة بينما نحن افراحنا قد ملأت بيوت القرية جميعها…سبعة ايام كانت اجازته وكنا في نهاية شهر رمضان المبارك وكان آخر يوم من اجازته قد صادف قبل حلول عيد الفطر المبارك بأربعة ايام وكان هو السحور الأخير بيننا فبعد ان تناولنا سحورنا ودعته وداع الام المكسورة وقلبي يحدثني عن هواجس مخيفة وبعدها قام جدكم وعمك سعيد بإيصاله الى كراج المدينة بسيارته الجديدة ليلتحق بعدها الى وحدته العسكرية ولم تمض سوى ايام قليلة حتى وجدت نفسي وفي عصر احد الايام امام سيارة وفوقها صندوق خشبي ملفوف بالعلم العراقي لينزل شخص يرتدي الزي العسكري ويسألني هل هذا منزل الملازم سعد فجفت الدماء في جسدي وعجز لساني ان ينطق كلمة نعم هذا بيت الملازم سعد وانا المفجوعة امه انا الذي ربيته وهنا في هذا البيت تعلم الرجولة وله في كل زاوية ذكرى وحكاية انا الام العراقية التي ربت وسهرت وتعبت فأكلت ثمارها الحروب… لقد استشهد ابني سعد وخلفه بعامان استشهد اخاه عمكم سعيد وبعدها توفي جدكم لأصابته بجلطة دماغية وبقيت انا على قيد هذه الحياة احكي لكم عن بعض قصصها المأساوية قصة الام العراقية المثالية واردت من خلال هذه القصة القصيرة ان يعرف العالم بأجمعه عن امرأة عراقية قدمت ابنائها شهداء لوطنها وبقت خلفهم تعيش آلم فراقهم وتحكي لأحفادها بعد اكثر من ثلاثة عقود قصص عن حروب مرت على بلادها…… ومازالت هذه الامرأة رغم انها بلغت من العمر عتيا تعيش مأساة حروب اخرى….