ملاحظات عابرة في قانون معادلة الشهادات والدرجات العلمية
داخل حسن جريو
حرص رجال التربية والتعليم في مختلف الأزمنة والظروف التي مر بها العراق , على بناء منظومة تربوية وتعليمية رصينة تسودها القيم والأعراف والتقاليد الجامعية السليمة قدر المستطاع , وبذل قصارى جهدهم لإبعادها عن المناكفات والصراعات السياسية , وضمان عدم تدخل الحكومات بتفصيلات العملية التربوية والتعليمية وشؤونها الأكاديمية من منطلق إستقلالية الجامعات والحريات الأكاديمية , ذلك أن بناء منظومة تعليمية سليمة , إنما يعني بناء مجتمع سليم قادر على تجديد نفسه والحفاظ على قيمه وهويته وتحقيق تقدمه وإزدهاره . والجامعات كما هو معروف في العالم مجتمعات قائمة بذاتها , تسعى لسبر غور المعرفة وإنمائها وإثرائها ونشرها على أوسع نطاق, والسعي لتوظيفها لمصلحة مجتمعاتها . وهي منظومات حية تؤثر وتتأثر بمحيطها , لذا تحاول الحكومات التدخل بشؤونها والتأثير عليها بصورة أو بأخرى لخدمة مصالحها .تكلف الحكومات عادة وبخاصة في البلدان النامية , كبار الأساتذة الجامعيين الموالين لها أو في الأقل الذين لم يعرف لهم نشاط سياسي معادي لها ,بتولي مناصبها القيادية لضمان عدم خروجها عن نهجها السياسي , دون الدخول بتفصيلات العملية التعليمية ونظمها الدراسية وطرائق وأساليب تدريسها وترقية كوادرها وشهاداتها ودرجاتها العلمية ومفردات عملها وبقية شؤونها الجامعية . إلاّ أن ما قام به مجلس النواب العراقي مؤخرا , إنما يمثل تدخلا سافرا في حيثيات العمل الجامعي وتفصيلاته والتي هي من صلب عمل الجامعات ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي حصرا ,ولا يحق لأحد سواها كائنا من يكون التدخل بمفردات التعليم الجامعي تحت أي مسوغ أو مبرر كان, وبخلافه فأن التعليم العالي سيواجه كارثة حقيقية بحصول أشخاص على شهادات عليا دون غطاء علمي ودون وجه حق , بقوة المال والنفوذ وشراء الذمم , ليتسللوا فيما بعد إلى مفاصل الدولة المختلفة ومنها الجامعات ليعيثوا فيها فسادا ودمارا لا سامح الله. ولا عجب في ذلك , فقد تناقلت قبل أيام وسائل الإعلام وعلى شاشات التلفاز مطالبة أحد النواب في جلسة علنية لمجلس النواب العراقي بإصدار عفو عام عن جميع المتهمين بقضايا تزوير الشهادات , مبررا ذلك بحصول الكثير من الوزراء وقادة الكتل السياسية وشاغلي الوظائف الرفيعة في الدولة على شهادات جامعية مزورة , فالعذر هنا أقبح من الفعل كما يقول المثل.ومن هنا ينبغي على جميع الخيرين السعي بكل الوسائل لإجهاض ولادة قانونهم الكسيح الذي شرعوه قبل أيام تحت عنوان قانون معادلة الشهادات والدرجات العلمية , والذي لا نرى أي مبرر لتشريعه إطلاقا , فتعادل الشهادات والدرجات العلمية تنظمها وتحكمها تعليمات جيدة أقرتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي منذ عقود , وتعمل بموجبها دون مشاكل تذكر.أن قانون معادلة الشهادات والدرجات العلمية المقدم من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى مجلس النواب العراقي لتشريعه , لا يتضمن أية تعديلات جوهرية في أسس التعادل للشهادات والدرجات العلمية العربية والأجنبية الواردة بالتعليمات ذي الرقم (5) الصادرة عن مجلس التعليم العالي والبحث العلمي, بجلسته الإستثنائية المنعقدة بتاريخ 14/1/ 1976, المنشورة في الصفحة (16) من الجزء الأول لجريدة الوقائع العراقية ذي الرقم ( 2512) بتاريخ 2/2/1976. فالقانون المقدم هو إستنساخ طبق الأصل للتعليمات السابقة المطبقة في الوزارة منذ سنيين طويلة , لدرجة ان المستنسخ لم يكلف نفسه مراجعة نسخته المستنسخة طبق الأصل, بحيث فاته أن هيئة المعاهد الفنية لم تعد قائمة الآن, حيث أنها أستبدلت عام 2002 بهيئة التعليم التقني , كما لم يعد هناك وجود لمجلس الخدمة الذي ألغي بنهاية عقد السبعينيات من القرن المنصرم .وعلى أية حال لم نجد مبررا واحدا يستوجب تغيير درجة التشريع من تعليمات مهنية إلى قانون يصعب تعديله لاحقا من قبل الوزارة إن إستلزمت الظروف ذلك في ضوء التغيرات والتطورات التي كثيرا ما تطرأ في الأوساط الجامعية والتعليمية , حيث يتطلب تعديل القانون موافقات جهات عديدة كمجلس الوزراء ومجلس النواب وغيرها التي لا ضرورة موجبة لها , بينما لا يتطلب تعديل التعليمات سوى موافقة هيئة الرأي ومصادقة وزير التعليم العالي والبحث العلمي لتصبح سارية المفعول, وكما يقول المثل أهل مكة أدرى بشعابها , فلا عجب أن نرى أن الأسباب الموجبة لإصدار القانون التي جاءت بها الوزارة, كانت أسبابا باهتة لا صلة لها بمضمون هذا القانون .إختلط الحابل بالنابل عندما أقحم بعض أعضاء مجلس النواب أنفسهم بما لا يفقهوه في شؤون التعليم العالي والبحث العلمي, إذا إفترضنا حسن النية , وربما وجد فيه كثيرون منهم فرصة للعبث بشؤون التعليم العالي لتحقيق مكاسب ومنافع شخصية وتعظيم موارد رزقهم وإضفاء نوع زائف من الوجاهة الأكاديمية بالحصول على شهادات جامعية أولية وعليا دون عناء , موظفين أموالهم السحت الحرام ونفوذهم لشراء ذمم وضمائر بعض من يحسبون على الوسط الجامعي لمنحهم ما يرغبون به من شهادات في إطار تبادل المنافع .ولعل أخطر ما جاء به هذا القانون , قيام مجلس النواب إلغاء مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص أمام القانون في الحقوق والواجبات , حيث منح أعضائه وشريحة أصحاب المناصب العليا في الدولة من وزراء ووكلاء وزراء وأصحاب الدرجات العليا إستثناءات في حصولهم على الشهادات , فقد إستثنوا هؤلاء جميعا من أحكام البند “رابعا” من المادة (6) التي تنص على أن “تكون دراسة الدكتوراه أو الكانديدات منتهية بتقديم أطروحة جامعية مقبولة “, بمعنى أن هؤلاء الأشخاص سيتم إستثائهم من معادلة الشهادات التي يحصلون عليها بدون أطروحة , وهذا أمر عجيب غير مسبوق في الدراسات العليا لا في العراق ولا في خارجه, شهادة دكتوراه بدون أطروحة دكتوراه لشريحة معينة من الناس, دون أن يقدم هؤلاء النواب البديل العلمي للتعويض عن أطروحة الدكتوراه لتبرير حصولهم على شهادة الدكتوراه.كما أجاز القانون دراسات الماجستير والدكتوراه بالمراسلة بموجب البند “ثالثا” من المادة (6) التي نصت على : ” تكون مدة الإقامة لدراسة الماجستير والدكتوراه خارج العراق (4) أشهر منفصلة أو متصلة بالنسبة للدراسات النظرية , أما بالنسبة للدراسات التي تحتاج العمل المختبري أو التطبيقي مدة الإقامة (6) أشهر منفصلة أو متصلة “, وكأن هذه الدراسات نزهة يقومون بها في أوقات العطل والمواسم السياحية , ولم تعد هناك حاجة لتصديق هذه الشهادات من قبل وزارة الخارجية , بل الإكتفاء بتصديق الملحقية الثقافية العراقية في البلد المانح للشهادة كما جاء في البند ” رابعا ” من المادة (7).فأية رصانة علمية هذه , وأي خرق علمي أبشع من هذا الخرق لأسس التعليم في العراق المعمول بها منذ سنيين طويلة والقائمة على التفرغ التام للدراسة الجامعية بأنواعها وتخصصاتها المختلفة في الدراستين الأولية والجامعية وعدم جواز الجمع بين الوظيفة والدراسية , لذا كان يمنح الموظفون الرغبون بالدراسة إجازات دراسية براتب تام أو بدونه حسب إستحقاق كل منهم, إذ كيف يمكن لمن يتولى مناصب قيادية رفيعة في الدولة الجمع بين أعباء الوظيفة الثقيلة وتبعات الدراسة التي تتطلب المثابرة وصفاء الذهن, مما يعني فتح الباب على مصراعيه للفساد وتنشيط بازار بيع وشراء الشهادات الجامعية الوهمية وإفساد ذمم بعض الأكاديميين .تحفظت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في العراق، على طريقة تمرير قانون أسس تعادل الشهادات.وأضافت الوزارة، أن مؤسسات التعليم العالي تعرب عن قلقها من بعض المواد المؤشرة في متن القانون التي لا تؤسس سياقا رصينا لمؤسسات الدولة فضلا عن هفوات الفلسفة العلمية المسؤولة عن تقييم الشهادات ومعادلتها ، ومراعاة لمبدأ التكامل بين السلطات.وهذا التحفظ أمر حسن من باب أضعف الإيمان , ولكنه غير كاف لإيقاف ما سيلحق من أضرار فادحة بقطاع التعليم العالي والبحث العلمي , بتشريع هذا القانون المناقض لكل القيم والأعراف الجامعية.وإذا كان هناك ثمة ضرورة لإصدار هكذا قانون , نؤكد هنا على ضرورة حذف كل التعديلات والمواد والبنود التي أضافها مجلس النواب في مسودة مقترح القانون المقدم من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي أولا , وبعدها إجراء بعض التعديلات على تعليمات أسس معادلة الشهادات الممنوحة من جامعات أجنبية والتي مضى على تشريعها نحو نصف قرن من الزمان, وكالآتي :1. لا يجوز الربط بين معادلة الشهادات والدرجات العلمية , إذ أن المقصود بمعادلة الشهادات هنا الشهادات التي يحصل عليها الطلبة من جامعات غير عراقية , ومعادلتها بالشهادات التي تمنحها الجامعات العراقية في التخصصات المماثلة, بمعنى التأكد من إستيفائها شروط الرصانة العلمية التي يجب أن تكون بمستوى رصانة الشهادة العراقية المماثلة بحدها الأدنى في الأقل.أما الدرجات العلمية فهذا شأن خاص بالجامعات العراقية فهي وحدها من يحدد درجاتها ولا علاقة له بالجامعات الأجنبية , فعليه لا يكون موضع بحث لجان معادلة الشهادات أبدا . وبذلك تكون التسمية الصحيحة للقانون : قانون معادلة الشهادات الأجنبية . وتبعا لذلك تحذف كلمة الدرجات العلمية أينما وردت في القانون.2. تعدل الفقرة ” ثالثا ج” من المادة (2) بحيث تقرأ كالآتي :تقوم مديرية التعليم المهني بوزارة التربية بتقييم الشهادات التدريبية الأجنبية على وفق الشروط والأسس المعتمدة لديها.3. تحذف الفقرة ” ثالثا د” من المادة (2) إذ لا علاقة لها بتعادل الشهادات .4. تعدل الفقرة ” أولا ” من المادة الثالثة بحيث تقرأ : تؤلف اللجنة بقرار من هيئة الرأي من عشرة أساتذة جامعيين عدا الرئيس ويمثلون التخصصات الأساسية المختلفة وتصدربأمر وزاري لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة فقط.5. تعدل الفقرة “ثانيا ” من المادة الثالثة بحيث تقرأ : يشترط في عضو اللجنة أن يكون من الأساتذة الجامعيين المشهود لهم بالنزاهة والكفاءة والتمييز في حقل إختصاصه.6. تكون معادلة الشهادات حصرا بوزارة التعليم العالي والبحث العلمي فقط.7. تمنح الجامعات الألقاب العلمية لمنتسبيها حصرا, وبحسب تعليمات الترقيات العلمية المعتمدة من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي , إذ أن لكل مهنة شروطها وأخلاقياتها وأسس التدرج فيها , كما هو حال المهن الأخرى , فالأطباء مثلا العاملين في المؤسسات الصحية يحصلون على ألقابهم المهنية بموجب شروط خاصة بهم للترقية , وكذا حال المهندسين والعسكريين وغيرهم , ولا يحق لسواهم مشاركتهم بها . وهذا يتطلب حذف أية إشارة وردت في القانون لموضوع الألقاب والترقيات العلمية .8. لا يجوز معادلة أية شهادة من جامعة غير معترف بشهاداتها في بلدها إطلاقا , إلاّ أن ذلك لا يعفي الجامعات المعترف بها من شروط التدقيق والتأكد من رصانتها من قبل لجنة معادلة الشهادات في العراق.7. لا يوجد أي ربط بين ما ورد في الأسباب الموجبة للقانون وبين فحوى ومحتوى القانون إطلاقا.وفي الختام نقول انه لا توجد ضرورة ملحة لإصدار هذا القانون إطلاقا , إذ أن التعليمات النافدة حاليا كافية ووافية , ويمكن تعديلها بسهولة من قبل وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لتتماشى مع التطورات الراهنة في مجالات التعليم الجامعي وتطور طرائقه وأساليبه وبرامجه , دون إتاحة المجال لتدخل جهات طارئة على الوسط الجامعي , لا تقيم وزنا للقيم الجامعية وأعرافها الأكاديمية , لتقضى على ما تبقى من هذه القيم , إن كان هناك ثمة بقايا . وبذلك نقطع الطريق على كل من تسول له نفسه المريضة العبث بشؤون التعليم الجامعي. والله من وراء القصد.