معلمون مجانيون
رعد أطياف
من جملة العادات التي تسهم بمعاناتنا هو نكران الآخرين بأي طريقة كانت، في تعاملي اليومي أنتبه لأحاديث الناس وطباعهم وأنماط شخصياتهم، فانتفع كثيراً بما يقدمونه لي بطريقة غير مباشرة، لكني أنسى الامتنان لهم حتى لو كان بيني وبين نفسي!. تدفعنا هذه النرجسية الطفولية إلى رؤية العالم من خلال أنفسنا فحسب، ولا مكان لغيرنا فيه، فتتسع لدينا دائرة النكران للآخرينن لكنّهم لو أخطؤوا بحقنا فيا ويلهم وسواد ليلهم!. سوف لا يسقطون من أفواهنا آناء الليل وأطراف النهار، وسنكون أوفياء جداً لعاداتنا، التنكّر والعداء لمن قدموا لنا منفعة مباشرة وغير مباشرة لا يجدي نفعاً، فنحن محكومون بشبكة علاقات متصلة وإن تنكرنا لذلك!، ومن يتنكّر لهذا الارتباط ستفوته مشاهد مدهشة وخبرة مجانية في هذا المسرح العظيم. ولذلك يروى عن لقمان الحكيم أنه فضل الآخرين غدا حكيماً، بمعنى أنه كان يستلهم الفضائل والرذائل على حد سواء؛ فالأولى يتحلّى بها، والثانية يتخلّى منها، فبهذه الطريقة يغدو الجميع معلمين، فإن كنّا نعتقد بأننا الطرف الوحيد في العطاء فنحن واهمون، ذلك أن الآخرين ساعدونا كذلك في فهم أنفسنا، ومنحونا الكثير من التبصّر والدراية، فلولاهم لكانت أنفسنا يلفّها الغموض. كل الناس تسهم في خبرتنا حتى هؤلاء الذين يعمقّون من معاناتنا وقديماَ قيل «إنما تُعرف الأشياء بأضدادها». لقد مررت بحياتي بمعاناة كبيرة وكان الآخرون مساهمين فيها، وبمرور الزمن اكتشفت أنهم كانوا معلمين أصلاء، فقد أظهروا المخفيّ من أعماقي، وقد عانيت منهم معاناة شديدة إلى أن أصبحوا مناطق مشرقة في ذاكرتي، مهما قيل عن مثالية هذا الطرح، يبقى الآخرون نعيمين ولو بشكلٍ بعيد، أعني، أنهم يشكلون ثروة هائلة حتى لو كان الأمر على نحو بعيد، فلو تبصرنا ملياً سنرى ما من شيء إلا ويتحول إلى كتاب مفتوح، فما نحتاجه – رغم صعوبة المهمة وغموضها في أغلب الأحيان- هو عبور حالة الجهل لكي نقرأ هذا الكتاب الهائل، ذلك أن الآخرين ليسوا جحيماً بقدر ما هم إحالات مرجعية إلى شيء ما؛ شيء ربما لم يُولد بعد أو لم نكتشفه بعد، فالكثير يلفّها الغموض والنسيان، لولا ذلك الآخر المعلم الذي يتسم بالرحمة في حين، وبالقسوة في حين آخر.