مصانع الثقة في المعقل التي عرفتها
هنا المعقل..هنا البصرة (سادسةً)
مصانع الثقة في المعقل التي عرفتها – منقذ داغر
الثقة ليست فقط حجر الزاوية في التعاملات المدنية التي تقوم على التعاون لا التغالب،وأنما هي رأس المال الحقيقي للمجتمع المدني.فالجوار يعتمد على الثقة،والحوار ايضا يعتمد على الثقة،والاقتصاد يقوم على الثقة،والسياسة تفشل دون ثقة الاطراف ببعضهم البعض. في الحقيقة فان الثقة هي البديل المدني للولاء والانتماء القبلي والعشائري،كما انها البديل عن الطاعة العمياء في المؤسسات العسكرية.لذا يبدو القول ان المجتمعات الفاشلة والمفككة هي مجتمعات فاقدة للثقة صحيح جدا. وبناءً على كل الدراسات التي اجرتها فرق مؤسستي البحثية(المستقلة) فأن اكبر مشكلة يعاني منها العراقيون حاليا-بل ام المشاكل- سواءً اجتماعيا او سياسيا او حتى اقتصاديا هي فقدان او تآكل الثقة. ففي عام 2 كان نصف العراقيين يقولون انهم يثقون بالآخر،أما اليوم فقد تدنت هذه النسبة كثيرا حتى بات عراقي واحد فقط من كل ستة يثق بالآخر. وللاسف لا تتوفر لدي ارقام عن معدل الثقة بالآخر قبل 2003 او خلال الفترة التي اتحدث عنها في ستينات القرن الماضي. لكني أتذكر مثلا أن والدي (رحمه الله) كان هو وجيراننا ممن يسكنون بجوار محطة قطار المعقل يذهبون للمحطة بعد ان يقلع آخر قطار متجه لبغداد يوميا، لدعوة من فاتهم القطار آنذاك لبيوتهم كي يستضيفوهم عندهم دون خوف من خلفيات او انتماءات او نياّت هؤلاء الضيوف الذين لا يعرفون عنهم سوى انهم غرباء فاتهم القطار،فكم هم الذين يفعلون ذلك اليوم؟ وجميع غير البصريين الذين قابلتهم في حياتي يشهدون للبصريين كيف انهم كانوا يهرعون(كحال كثير من العراقيين آنذاك) لمساعدة الغريب ومن تقطعت به السبل. هذه الممارسات تدل على ان الناس كانت اكثر ثقةً ببعضها البعض،وبالتالي اكثر قدرة على التواصل والتفاعل والتعاون،فما السر وراء ذلك؟هناك اسباب كثيرة ممكنة لكني اركز هنا على طريقة انشاء المدن بالشكل الذي يولد (يصنع) الثقة بين الناس ويديمها.هنا سأتطرق الى أربع مصانع مهمة باعتقادي لبناء الثقة بين المجموعات السكانية المختلفة: التعليم،الفن،الترفيه والتخطيط العمراني.ورغم التداخل بين هذه العوامل الا ان فصلها يبدو اجدى لفهمها. سأبدأ من حيث البداية الفعلية لماركيل،أي تصميمها وبناءها. بُنيت مدينة المعقل الحديثة حول ميناءها لتكون سكنا لموظفي الموانئ ومن يسندهم في الخدمات الضرورية (التعليم،الصحة،الامن،الزراعة،البلدية…الخ). لذا تم تصميم المدينة لتكون اشبه بالمجمعات السكنية الحديثة حيث تكامل الخدمات وكفايتها للسكان لكن مع مراعاة ان السكن كان افقيا ومتسعا وليس عموديا وضيقاً. لقد كان كل السكان يذهبون لنفس المستشفى(الموانئ) ويعرفون كل الكادر الطبي بالاسم والعائلة،ويرسلون ابنائهم لنفس المدارس التي يعرفون كل مدرسيها-لانهم يسكنون معهم-،ويرتادون ذات السوق والمقهى والنادي،والسينما،والحديقة العامة…الخ مع فروق نسبية تبعا لمستوى الدخل والدرجة الوظيفية. وبعد الدوام كان الجميع يتواصلون معا فتزداد ثقتهم ببعضهم.مدينة المعقل التي بناها الانكليز العاملين في الميناء لتكون سكنا لهم،غُزلت بمنوال صنع في انكلترا ونُسج في البصرة ليراعي ظرفها المناخي من جهة ووظيفة الميناء من جهة اخرى.أعتذر هنا ان كنت ابدو متعدياً على اختصاص التخطيط الحضري، لكن المهندس الذي خطط المعقل كان بلاشك مثل حورية شط العرب نصفه انكليزي ونصفه الآخر بصري. فبيوت المعقل كانت تمتاز بمساحة بناء صغيرة مثل البيوت الانكليزية،لكن حدائقها قد تصل الى عشرة اضعاف مساحة البناء مراعاةً لجو البصرة. أذكر جيدا ان حديقة بيتنا في شارع حطين الموازي لشارع اجنادين كانت تتسع لكل ابناء جيراننا في الشارعَين للعب كرة القدم بفريقَين كبيرين.هذه الحدائق لم يكن لها دور بيئي مناخي جمالي فحسب بل لها دور اجتماعي حيث يمكن للجيران(كما كان يحصل معنا) ان يجتمعوا يوميا في بيت احدهم دون ان يحدّوا من حرية الساكنين فيتضايقوا منهم. وبذلك تزداد اواصر التواصل بين المجتمع المحلي. لقد كانت هذه الحدائق تلعب دور المنتديات الثقافية والرياضية والاجتماعية لابناء المنطقة. هذا فضلا عن المنتديات العامة التي ساتناولها لاحقا. كما صار على العائلة ان تجتمع مساءً في حديقة البيت المفتوحة بدلا من الحوش المغلق. ولم تعد النساء عورة يجب اخفائها خلف الجدران للحفاظ على ماتعارف العراقيون بتسميته(الشرفية)،بل اصبح بامكانهن ان يجلسن في الحديقة المفتوحة ويستمتعن مثل الرجال،ومعهم،بالفضاءات المفتوحة. ولأن سياجات بيوت المعقل لم تكن عالية صار ينبغي على الرجال والنساء ارتداء الثياب المناسبة والانيقة وبما يتناسب مع الاماكن المفتوحة.