مذكرات عسكرية لا خوف منه
د. فاتح عبدالسلام
الدماء الزكية التي سالت في الهجمات الأخيرة التي نفذها تنظيم داعش، وقد تنفذ المليشيات ذات يوم ما يشبهها، هي لجنود وضباط من صغار الرتب في الجيش العراقي، لم يدركوا في أغلبيتهم الساحقة، زمن الحرب العراقية الإيرانية التي انتهت قبل أربع وثلاثين سنة، وهناك مَن أدركها طفلا في المدرسة الابتدائية ولا يعرف شيئا عنها. الجهات الرسمية، كشفت مراراً، ومنها عملية حاوي العظيم التي قضي فيها أحد عشر جنديا، عن ظروف الهجمات ووسائل التصدي والدفاع فضلا عن الطرق التي يتبعها المهاجمون. وهي جميعها تقريبا عمليات لا تكاد تُذكر من حيث الوزن في المقارنة مع أبسط تعرض هجومي مرت به وحدة عراقية مهما كان نوعها او عديدها وتجهيزها في خلال الحرب التي دامت ثماني سنوات مع ايران.في حين ينبغي ان تكون للجيش العراقي ذاكرة واحدة، تنبثق عنها الدروس على نحو مستمر ويومي من دون انقطاع في إلهام الجنود أساليب مستنبطة من تجربة تلك الحرب الكبيرة والقاسية، والتي من المفترض أن تكون وحدها المادة الأساس للتعليم ونقل الخبرات في الكليات العسكرية وكليات الأركان ومدارس القتال والتدريب والصنوف الحربية كافة. ذلك انّ تلك الحرب لها عوامل يفهمها الجندي العراقي ويدرك بسهولة استيعاب دروسها إذا جرى تدريس معاركها وأساليب القتال فيها والبطولات الفردية النادرة خلالها بوصفها أدوات تكوين شخصية الجندي وبنائه، فهي اقرب اليه نفسياً من تلقي دروس عن الحرب العالمية الثانية أو حرب فيتنام أو حروب العرب مع اسرائيل أو الحرب الكورية او حرب البوسنة.قرأت اكثر من مرة، تسجيلات دقيقة تؤرخ لسياقات معارك كبرى خاضها الجيش العراقي في تلك الحرب في الجبال والوديان والانهار والمسطحات المائية والصحاري، بما يعطي صورة عميقة وغنية قابلة للدرس والاستنباط بحكم تنوع المعارك في الجغرافية والتعبئة، وهي معارك تراوح بين النصر والفشل المرحليين ، إذ لا نتائج نهائية سهلة في تلك الحرب الطويلة.كاتبو تلك المذكرات العسكرية ضبّاط وقادة سابقون لم يعودوا في الخدمة بل ليس داخل العراق ايضاً، ونراهم يكتبون بدقة وموضوعية في علوم الحروب، بعيدا عن السياسة والأفكار المقحمة، وذلك ما يحتاجه الجيش العراقي في إعادة بناء نفسه، وعندها ستبدو التعرّضات الأخيرة ضد الجيش من الصغائر التي من المعيب ان تطغى على سمعته الناصعة برغم كل الجروح والتجاوزات.