محنة الفقراء والحلول البائسة
د. كاظم المقدادي
شبع العراقيون حد التخمة من وعود الطغمة الحاكمة طيلة 17 عاماً، والتي لم تتعب من إطلاقها وتخدير بسطاء الناس بها، ولم تف ولا بوعد واحد، غير اَبهة بما تعانيه الغالبية العظمى من المواطنين..
خير مثال على ذلك ما يحصل منذ نحو شهر، حيث تتخبط الحكومة حيال محنة وباء كورونا وتداعياته الأقتصادية- الأجتماعية،التي لم يلمس الفقراء سوى الوعود والبيانات،التي لا تغني ولا تسمن،بينما تتفاقم محنة من لا دخل ثابت له، ولا يستطيع توفير لقمة العيش لأطفاله بسبب إنقطاع رزقه اليومي أثناء فترة حظر التجوال الضروري في مواجهة وباء كورونا.وهؤلاء هم بالملايين، ويعانون هم وأسرهم من الفاقة والحرمان-..
وفقاً لأرقام وزارة التحطيط ثمة اليوم في العراق ما لا يقل عن 10 ملايين من المواطنين الفقراء، الذين يقع معظمهم تحت خط الفقر. وهؤلاء هم عمال المساطر والبناء واصحاب البسطيات والكسبة من مختلف المهن وغيرهم، ممن يصارعون يوميا في الاحوال الاعتيادية من اجل تأمين لقمة خبزهم وقوت عائلاتهم.ولكم ان تتصوروا حال هؤلاء المسحوقين اليوم في ظل حظر التجوال، الذي يحرمهم حتى من فرص العمل البائسة المشار اليها وغير المضمونة، ويسلبهم القدرة على إطعام أطفالهم الجياع.ومع مرور ايام حظر التجوال، وتمديدها، تفاقمت محنتهم، وكان يفترض، وكحق من حقوقهم، ان تساعدهم الحكومة فوراً.
لو كانت الحكومة حريصة على شعبها لأسرعت في إتخاذ إجراءات عاجلة للتخفيف من عبء الازمة التي يعاني منها الفقراء والكادحون، جراء فرض حظر التجول الصحي.لكن الحكومة أثبتت مرة أخرى أنها بعيدة كل البعد عن محنة الشعب، ولا تهتم لما يدور في الواقع المرير.
لقد نبهت العديد من الشخصيات الوطنية الى أن الدوافع الى كسر حظر التجوال يجب أن تجري معالجتها من قبل الحكومة ومؤسسات الدولة كافة. فانتقد د. رائد فهمي- سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي- الجهات الحكومية لعدم اتخاذها خطوات عملية حتى الآن، لتوفير بدائل معيشية لمن حُرموا من العمل خلال فترة حظر التجول. وحذر من ان تجاهل أوضاع الشرائح المجتمعية الفقيرة سيدفع بها إلى التمرد على الإجراءات الوقائية، و يزيد من مخاطر الوضع الصحي في البلد.
ولفت فهمي الى أن جميع دول العالم، التي تواجه خطر الوباء، والتي فرضت الحجر المنزلي على مواطنيها، قامت بتحمل الأعباء الاقتصادية الناجمة عن ذلك، بما فيها صرف إعانات مالية الى من خسروا فرص العمل.
وحذر فهمي من أن الحكومة لن تنجح في السيطرة على الوباء من دون توفير البدائل المعيشية اللائقة للمواطنين المتضررين، وان التلكؤ في ذلك سيؤدي الى عواقب خطيرة على المجتمع .
من جهته، نبه عضو مفوضية حقوق الانسان في العراق د. فاضل الغراوي الى ان الاصرار الحكومي على التاخير في تامين متطلبات الجانب المعيشي للمواطن يمثل انتهاكا صارخا لحقوق الانسان.واضاف ان ملايين من المواطنين تاثروا باجراءات الحجر الصحي الوقائي من الناحية المعيشية وفقدوا قوتهم اليومي وكان على الحكومة ان تعالج هذا الامر من خلال تخصيص اموال ومنح وتامين سلات غذائية مضاعفة لهم وخصوصا الايتام وكبار السن والاطفال وذو الدخل والاشخاص ذو الاعاقة المحدود والمهجرين .
فما الذي فعلته الحكومة ؟
لقد وعدت- وفقاً لبيان للجنة العليا للصحة والسلامة العامة:” إيلاء إهتمام خاص بمعالجة الآثار الأقتصادية لحظر التجوال بسبب وباء كورونا، وتخفيف الأعباء عن كاهل المواطنين المتضررين منه، وفي مقدمتهم محدودو الدخل وأصحاب الأجور اليومية وجميع المعطلة أعمالهم ومصالحهم، وتوفير المواد الغذائية، وإستقرار الأسعار” .. وتحدثت الأنباء عن تشكيل لجاناً وزارية لمعالجة الآثار الاقتصادية للمواطنين..
فما النتائج ؟
عمليا لم يتم سوى اصدار بيانات، دون اجراء ملموس، بعكس المبادرات المجتمعية لإغاثة الأسر المحتاجة، التي قام ويقوم بها كثير من المواطنين والجهات الغيورة والمخلصة. لكن هذه المبادرات المشكورة ليست قادرة ان تسد احتياجات الملايين من الفقراء..
من بين البيانات الرسمية التي ضج الأعلام بها ان اللجنة العليا للصحة والسلامة العامة شكلت لجنة برئاسة وزير التخطيط لـ”معالجة إنعكاسات الأزمة المالية على المواطنين، والنظر بتوفير مبالغ مالية للمتضررين بالأزمة”..وكان على اللجنة ان توفر المبلغ المطلوب.وفيما بعد أعلنت وزارة التخطيط أنه تم تخصيص 300 مليار دينار عراقي للمتضررين من أزمة وباء كورونا.وإن وزير التخطيط استعرض خلال اجتماعه مع خلية الأزمة النيابية التوصيات واستراتيجية العمل والإجراءات التي مضت اللجنة في تحقيقها.وأضافت أن المبلغ المرصود مخصص لمن تضرر من الأزمة، ممن لا يستلم راتباً من الموظفين والمتقاعدين والمشمولين بالرعاية الاجتماعية، والعمل على إعفائهم من أجور الكهرباء والماء والخدمات حتى نهاية الأزمة”.
وبينما كان على اللجنة العليا ان تعجل في توزيع المبالغ للمحتاجين،وتتجاوز الروتين القاتل، غرق عملها في إجراءات رسمتها ليست سهلة التنفيذ. فأشار المتحدث باسم وزارة التخطيط عبد الزهرة الهنداوي في مقابلة متلفزة، بان مبلغ 300 مليار دينار كمنحة مالية طارئة، خصص لاصحاب الاجور اليومية الذين لا يمتلكون اي مصدر دخل حكومي.وأنه سيوزع وفقا لشررط واليات مقررة، بعد إملاء إستمارة الكترونية، ستطلقها وزارة المالية عبر الأنترنيت وتوزيعها وفق تحديد سقف زمني، بنحو 10 ايام.وستعتمد قاعدة بيانات وزارة التخطيط للعوائل تحت خط الفقر،وكذلك الاستفادة من بيانات وزارة التجارة الخاصة بالبطاقة التموينية.وان عدد المشمولين بالمنحة يقدر بنحو مليوني أسرة، وبواقع 10 ملايين شخص.
وفيما بعد تبين ان المبلغ المقرر للفرد الواحد من المنحة المالية هو 30 ألف دينار..
وجواباً على سؤال: “لماذا تأخرت الإغاثة كل هذا الوقت” ؟ أوضح الهنداوي: ” تشكلت أولآ لجنة برئاسة وزير التخطيط وعضوية وزراء، هي المسؤولة عن توزيع المبالغ.واجتمعت اللجنة مع خلية الأزمة.وقُدمت توصيات بشأن المنحة. وكان لابد من توفير مبلغ المنحة. وتم توفيره.ورفع المقترح الى اللجنة العليا للصحة والسلامة العامة، التي تنتظر تشريعا قانونياً،ومن ثم وضع اَلية لصرف الأموال تخضع للقوانين، بحيث لا تكون هناك تداعيات ان تذهب لغير أصحابها. والعمل في طورالتحديد وتوصيف الشرائح المشمولة وحصرها وفق قاعدة بيانات.وعند إستكمالها سيتم توزيع المبالغ عليها”..
وفي هذه المعمعة، لليوم لم يصل دينار واحد لأي مواطن محتاج..وحتى “البطاقة التموينية” التي قُدمت مقترحات كثيرة بشأن الإسراع بإطلاقها وتنويعها وزيادة قيمتها الغذائية، تفاجأ العراقيون بتصريح لوزير التجارة “يبشر” فيه بعدم وجود تخصيصات كافية لها !
فلمن اذن خُصصت المنحة المالية الطارئة ؟
وأين صارت التبرعات السخية المعلنة، والتي يفترض ان يخصص جزء منها لإعانة المحتاجين ؟
فأليس تخفيف الضائقة المعيشية للمواطنين هي المهمة العاجلة للحكومة ؟..
وهل تستحق ضآلة المبلغ ( 30 ألف دينار) كل هذه اللجان،والآليات،والإجراءات، وكل هذا الوقت ؟
وما الذي سيفيد هذا المبلغ البائس في معالجة محنة نحو 3 ملايين فقيراً يعيشون في العشوائيات ؟
وما قيمة هذه “الإغاثة” مقابل ما تستلمه الرئاسات الثلاث والبرلمانيون والوزراء والوكلاء وأصحاب الدرجات الخاصة والمدراء العامون وموظفو الوقفين الشيعي والسني والرفحاويون من ملايين كل شهر ؟
تساؤولات مشروعة تجاهلتها الحكومة ولجانها، وهو ما عزز المخاوف والشكوك بان البطء والمماطلة والتمسك بالروتين القاتل، وتخصيص هذا المبلغ البائس لـ”إغاثة” ملايين العراقيين الجياع والمحرومين، عمل مقصود..
.وما يبرر المخاوف والشكوك هو الفساد المستشري الذي تتستر عليه حكومة تصريف الأعمال، واَخر”منجزاتها” شمول المتهمين بالفساد والأختلاس بالعفو الأخير، وقبل هذا قيامها بخروقات دستورية كثيرة، مثل عقد الصفقات، التي لا يحق لها، ولم تحاسبها لا السلطة التشريعية ولا السلطة القضائية، وكأن الأمر لا يعينيهما..
وفي هذا المضمار نشير الى الرسالة التي وجهتها مجموعة من الاكاديميين والاقتصاديين العراقيين إلى رئيس مجلس الوزراء وقادة الأحزاب والتيارات السياسية، نبهت فيها الى ان بعض النواب يحاولون الاستحواذ على مقدرات الشعب.ودعوا الى “ضرورة إيقاف مساعي بعض المحسوبين على الأحزاب السياسية من النواب الذين يسعون إلى زج بعض الشخصيات التابعة لهم في المراكز المهمة بالمؤسسات الاقتصادية، ومنها البنك المركزي، للاستحواذ على مقدرات الشعب العراقي، بذريعة ملء فراغ هنا او هناك. وهي تفعل ذلك استغلالاً للضعف والفراغ الذي تشهده الحكومة الحالية. هذا فضلاً عن المحاولة التي لم تتوقف يوماً للتأثير على البنك المركزي أو ابتزازه”.
وجاء في الرسالة أيضاً:”ان نجاح هذه المحاولات، التي تعكس زيف شعارات الإصلاح والقضاء على المحاصصة التي أوصلت البلد إلى الهاوية، سيؤدي إلى نكسة كبيرة في اقتصاده، فضلاً عن تدمير سمعة البنك المركزي- هذه المؤسسة التي تعمل في فضاء دولي اقتصادي بالغ الصعوبة”..
الأكيد، ان المتنفذين المعنيين بالرسالة لن يعيروا لها أي إهتمام، وقد رموها في سلة المهملات..
أما محنة ملايين العراقيين المتضررين من أزمة وباء كورونا، التي ستتفاقم أكثر في حالة تمديد حظر التجوال أكثر فلن تعالجها “الحلول” البائسة، وبالتالي، لن يحصل أي تغيير إيجابي، وإنما ستتفاقم المحنة أكثر فأكثر، ما دامت الطغمة الحاكمة لا تعير أهمية سوى للحفاظ على سلطتها ومنظومة محاصصتها وفسادها وتقاسم المغانم وضمان مصالحها الحزبية حتى في تشكيلة الحكومة المؤقتة المقبلة..