“متى كان الكرد غير ضالعين في مآسي أبناء جلدتهم، وأيديهم غير ملطّخة بدمائهم؟!”
الكاتب : هوشنك اوسي
متى كان الكرد غير ضالعين في مآسي أبناء جلدتهم، وأيديهم غير ملطّخة بدمائهم؟!
الشعوب الشرق أوسطيّة، متشابهة في الكثير من الأشياء. يكاُد الاختلاف يكون في تفاوت نسب التشابه وحسب. بمعنى آخر، حضور الخرافة والميثولوجيا في تاريخ هذه الشعوب، قاسم مشترك بينها. الاختلاف يبقى في نسبة هذا الحضور. تتميّز هذه الشعوب عن أقرانها في الغرب، أن الخرافة والأوهام، لا تتحكّم في ماضيها وحسب، بل في حاضرها أيضاً.
الأحقاد والثارات التاريخيّة، بين الأديان والطوائف والمذاهب، استجلبت معها خرافات التفوق القومي أو الديني أو الطائفي لطرف على آخر، أو على كلّ الأطراف الأخرى التي تعيش في الشرق الأوسط. ثم يقولون لك: لم يكن هناك في يوم من الأيّام عداوات بين كردي أو عربي، بين مسلم أو مسيحي، بين مسلم ويهودي، بين شيعي وسنّي، بين سنّي وعلوي أو درزي أو اسماعيلي…الخ، وكل ما نراه الآن، هو أفعال ومؤامرات ومخططات الاستعمار، كي يسيطر علينا؟!
يبقى حال الكرد هكذا؛ “أمّة في شقاق”، لا تملُّ من تكرار أحد أبرز خرافاتها الجميلة التي لم ولن تتحقق: المطالبة بوحدة الشعب الكردي! ووحدة الصفّ الكردي!
كأنّ تاريخ هذه المنطقة، هو تاريخ السلام والعيش بأمان ونعيم في جنّة التعدديّة والديمقراطيّة وقبول التنوّع والاختلاف! الفتنة بين الصحابة وحروبهم على بعضهم البعض، كان سببها “عبدالله بن سبأ”. وما نشهدهُ الآن أيضاً في الشرق الأوسط، سببه أيضاً “عبدالله بن سبأ” الأمريكي والأوروبي، الإسرائيلي والإيراني والتركي!
مناسبة هذا الكلام، هي طرح الأسئلة التالية: متى كانت العرب أمّة واحدة؟ وعلى دين وقلب رجلٍ واحد؟، سواء قبل الإسلام، أو في صدره؟ أو بعد وفاة النبي؟! كذلك، متى كان الكرد أمّة واحدة، وعلى قلب رجل واحد، منذ مملكة ميديا سنة 612 ق.م، وحتّى لحظة كتابة هذه الأسطر؟!
أبعد من ذلك، متى كان الكرد غير ضالعين في مآسي أبناء جلدتهم، وأيديهم غير ملطّخة بدمائهم؟!
لكثرة ما يندبُ ويشجبُ الكردُ الغربَ على عدم منحهم دولة، أسوة بالعرب والترك والفرس، أكادُ أقول: لو منحَ الغربُ الكرد دولة واحدة؛ (كردستان الكبرى) طبقاً للخريطة التي يضعونها لدولتهم المنشودة والتي ربما تصل حدودها إلى الارجنتين أيضاً، لكانت صراعات الكرد وانقساماتهم وحروبهم البينيّة كفيلة بتقسيم هذه الدولة بين القبائل والعشائر والأحزاب التي هي أيضاً في أفضل أحوالها؛ قبائل وعوائل وعشائر!
في 19/2/2020 التقى وفد من المجلس الوطني الكردي في سوريا مع وزير الخارجيّة التركي مولود تشاوش أوغلو. هذه ليست فقط بجاحة ووقاحة سياسيّة وحسب، وبل وساخة سياسيّة وأخلاقيّة أيضاً. ليس لأن تركيا تقمع وتضطهد شعباً كرديّاً داخل حدودها، وجماعة كرديّة سوريّة، ونزولاً عند مكايدات ومصالح سياسيّة، تتواصل مع أنقرة، وتتموضع في خندقها. بل لأن الأخيرة تحتل أراضي كرديّة سوريّة، وأراضي عربيّة سوريّة، وتدعم تنظيمات تكفيريّة وإرهابيّة في مناطق “عفرين” و”رأس العين” وريف إدلب وحلب، تمارس جرائم حرب وتطهير عرقي ضدّ السوريين كرداً وعرباً. وكل سبب من هذه الأسباب، توجب وتجبر المجلس الكردي المذكور بعدم الاقتراب من الاحتلال التركي في سوريا. وإلاّ لاعتُبِرَ هذا التقرّب ارتزاقاً كامل الأوصاف والأركان.
يبقى لمبرري هذا السلوك القول: هذه سياسة، ومستنقع وساخة. إذا اقتضت مصلحة القضيّة العوم في هذا المستنقع، سنفعل. وحسبنا ما وجدنا عليها قادتنا الأوائل؛ الملا مصطفى بارزاني، جلال طالباني، عبدالله أوجلان، وعبدالرحمن قاسملو، الذين تواصلوا وتعاونوا مع الأنظمة التي تقمع الكرد وتضطهدهم، فقط كي يستفيدوا من التناقضات والعداوات بين تلك الأنظمة، في ما هو خدمة قضاياهم الكرديّة.
الملا مصطفى بارزاني، جلال طالباني، عبدالله أوجلان، وعبدالرحمن قاسملو، الذين تواصلوا وتعاونوا مع الأنظمة التي تقمع الكرد وتضطهدهم، فقط كي يستفيدوا من التناقضات والعداوات بين تلك الأنظمة
يتعامى أولئكَ المبررون – المفسّرون، إن تلك الأنظمة، استخدمت تلك القيادات الكرديّة وأحزابها، ضدّ أكراد ذلك البلد الذي تحكمه. يعني، أن قادة الكرد في علاقاتهم مع تلك الأنظمة، لم يحددوا سقف ما يترّتب على علاقاتهم معها، بحيث لا تضرب أو تضرّ مصالح أكراد تلك الدول! بتعبير أكثر وضوحاً؛ نظام الأسد الأب والابن استخدم أوجلان وحزبه ضد كرد سوريا، وقضيتهم. إيران استخدمت بارزاني وطالباني ضد كرد إيران وقضيتهم. النظام التركي، استخدم قيادات كرد العراق وأحزابها ضد كرد تركيا. وعليه، لن تشذّ أنقرة عن هذا السلوك، حين تستقبل وفد المجلس الوطني الكردي.
ولأن “الوساخة” السياسيّة لدى طرف كردي، تستنهض وتستنفر وتستفزّ “الوساخة” السياسيّة لدى الطرف الكردي الآخر، وتجعله يلجأ إلى خزائن الكلام التخويني إيّاها، وتفصيل أطقم الكلام الذي تعتبره مناسباً لتوصيف ما اقترفه المجلس الوطني الكردي. وأقصد، حزب العمال الكردستاني، وفرعه أو مدير أعماله أو معقّب معاملاته في سوريا؛ حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD). هذا الأخير، وفي إطار شجب وإدانة المجلس الوطني الكردي، حشدَ واستجمع كل ما لديه من حمولة لفظيّة ومعنويّة وتاريخيّة. في حين أن الحزب نفسه، وعلى امتداد عقدين، كان في كنف ورعاية ودعم نظام الأسد الأب (1979-1998) لحين توقيع الأخير على اتفاقية أضنة الأمنيّة، التي بموجبها لم يطرد حافظ الأسد عبدالله أوجلان من دمشق وحسب، بل ساهم في اختطافه من نيروبي في فبراير 1999، واعتقاله، عبر تمرير الأمن العسكري السوري صورة عن جواز سفر أوجلان (القبرصي المزوّر) إلى الأمريكيين والأتراك. واستمرّ نظام الأسد الابن وفيّاً وملتزماً ببنود الاتفاقيّة الأمنيّة، وأغلق كل معسكرات الحزب في دمشق، وسلّم ما يزيد عن 150 من قيادات وكوادر (PKK) إلى تركيا، على دفعات. وواصل ملاحقة أنصار الحزب، بخاصّة حين، افتتحوا لأنفسهم فرعاً يدعى حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD). ذلك أن معتقلي الأخير في سجون الأسد، كانوا أكبر من معتقلي جماعة الاخوان المسلمين بين 2003-2010. رغم ذلك، عاد هذا الحزب إلى التنسيق مع نظام الأسد الابن، منذ أبريل 2011، وحتّى هذه اللحظة.
هذا الحشد الأوجلاني المحترم، تعامى وتناسى وساخة عقدي الثمانينات والتسعينات في علاقته مع نظام الأسد، وركّز على وساخة جلوس وفد المجلس الوطني الكردي مع تشاوش أوغلو!
لحشد الأوجلاني السوري نفسه، تعامى وتناسى تنازل الحزب عن “عفرين” و”رأس العين” لأنقرة ومرتزقتها، وطالب المجلس الوطني الكردي بمواقف قوميّة ووطنيّة، وقطع أية علاقة مع الأتراك. والحشد نفسهُ، إذا اجتمع مسؤول من حزب العمال الكردستاني مع مسؤول تركي من الدرجة العاشرة، يعتبرونه فتحاً مبيناً، ونصراً تاريخيّاً كونيّاً لبندقيتهم ودماء الشهداء! في حين إذا التقى مسؤول كردي سوري أو كردي عراقي أو كردي موزمبيقي مع وزير الخارجية التركي أو حتّى مع الرئيس التركي، يعتبرونه خيانة عظمى بحق الشعب الكردي وكردستان ودماء الشهداء!
الحقُّ أن الفارق بين وساخة المجلس الوطني الكردي السوري ووساخة حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري، إن الأوّل يعلنها جهاراً نهاراً، ويبررها. بينما الثاني، يتكتّم عليها، ويلبسها ألف لبوس وطني وقومي وفلسفي واجتماعي وكيميائي وفيزيائي وفلكي وأنثروبولوجي وسوسيولوجي…، لامع وقشيب، إذا افتضح أمرها!
تجلّي آخر من تجليّات الحضيض الكردي الذي لا يمكن فصله عن الحضيض الشرق أوسطي، افتضاح كينونة وهويّة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (العلماني – اليساري، التقدّمي) ليس في توريث الحزب لنجل مؤسسه الراحل جلال طالباني؛ بافل طالباني، بل في توريث الحزب مناصفة بين بافل طالباني، وابنه عمه لاهور شيخ جنكي طالباني؛ مسؤول المخابرات في الحزب!
كل ذلك، تحت أكذوبة؛ فتح الأبواب أمام الطاقات الشابّة. وهذان المسؤولان الكردييان، إلى جانب آخرين في الاتحاد الوطني، هما اللذان سلّما كركوك إلى الحشد الشعبي وقاسم سليماني، فقط كي لا تدخل في كنف إقليم كردستان، عقب الاستفتاء على استقلال الإقليم!
حزب الزعيم الكردي الراحل جلال طالباني، كان يتهم حزب خصمه “الديمقراطي الكردستاني” بانه حزب القبيلة والعائلة، ومتخلّف، وأن الاتحاد الوطني الكردستاني حزب عصري، ديمقراطي، علماني، اشتراكي…، افتضح في 18/2/2020 أن قبليّة وعائليّة “الاتحاد الوطني” تجاوزت قبليّة وعائليّة “الديمقراطي الكردستاني” بزعامة رئيس الإقليم؛ نجيرفان بارزاني. وهكذا أصبح الحزب يتزعّمه ابنا العمومة؛ بافل طالباني ولاهور طالباني.
بالعودة إلى فرع العمال الكردستاني في سوريا، وقصصه التي لا تنتهي. العالم بحروبه وكوارثه وأوبئته في واد، وحزب عبدة أوجلان، في واد آخر؟ لكأنَّ هذه الغيبوبة الحزبيّة التي يعيشها هؤلاء، تجاوزت في هزليتها نظام كوريا الشماليّة أيضاً. ذلك أنه أيُّ حسٍّ أو عقلٍ أو وعي عفن يمتلكهُ، مَن يخرج النازحين من رأس العين ومناطق أخرى، المتواجدين في المخيمات، في اعتصامات احتجاجاً على حريق نَشَبَ بالقرب من سجن أوجلان، في جزيرة إيمرالي!؟ هذه الطرائق المبتذلة في التضامن مع أوجلان التي يتّبعها هذا الحزب، كرَّهت الناس في الرجل، باعتباره زعيماً كرديّاً، أو أقلّهُ معتقلاً سياسيّاً.
مع كل هذا الحضيض الذي يطفح به المشهد السياسي الكردي، ويعبّر عن نفسه على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لا يملُّ الكرد من مجّ ولوك خرافة “وحدة الصفّ الكردي” و”المصير القومي المشترك”. وضرورة رصّ الصفوف، وشحذ الهمم…الخ! ولا يأتي هؤلاء بمثل واحد فقط يشير ويؤكد أن الكرد في يوم من الأيّام، عبر تاريخهم الذي يمتد إلى ما يزيد عن ألفي عام، كانوا شعباً واحداً، وعلى قلب رجل واحد. يجمعهم قرار وإرادة واحدة. ولم يكن هناك تصدّع وصراع وتطاحن وانقسام واحتراب داخلي كردي – كردي؛ قبلي، أو حزبي!
وإذا كان المزاج السياسي والاجتماعي واللهجاتي بين السليمانيّة ودهوك مختلف، وضمن جزء من كردستان، فما بالكم في الاختلافات الموجودة بين أجزاء كردستان الأربع!؟ ربما يبرر البعض أن هذه الاختلافات دليل تنوّع وطبيعيّة. هذا صحيح. شريطة ألاَّ تكون سبب تراجيديا الكرد على امتداد تاريخهم المغمّس بالدم الناجم عن الشقاق!
حاصل القول: يبقى حال الكرد هكذا؛ “أمّة في شقاق”، لا تملُّ من تكرار أحد أبرز خرافاتها الجميلة التي لم ولن تتحقق: المطالبة بوحدة الشعب الكردي! ووحدة الصفّ الكردي!