ما وراء سحابة الإقتصاد
ما وراء سحابة الإقتصاد – ياس خضير البياتي
العالم مركب من الأزمات، أزمة قديمة تكاد تمحى من ذاكرة البشر، لا تلبث أن تظهر أخرى أكثر قوة. نتذكر ما فات منها، ونبدأ نترحم على ما انقضى منها. كأنها متواليات هندسية احتمالاتها تتزايد أو تتناقض بشكل ثابت، لكنها نتائجها مجهولة المصدر، ومعلومة العدد. لكن الاحتمالات مفتوحة الأفق. لأن العلم غير قادر أن يعطينا وصفة النجاة، كأن حياتنا سلسلة من الأزمات والأقدار التي لا تنطفئ إلى يوم الدين.كأنه قدر محتوم!كان عام 1929، أول أزمات القرن العشرين الذي سمي ” الكساد الكبير”، وهي أسوأ أزمة اقتصادية امتدت تداعياتها القاسية على طول عشر سنوات مشبعة بالخسائر والإفلاس والبطالة. وبعد 44 عاما انطلقت أزمه أسعار النفط، وماسببته من ركود تضخمي، وانهيار في سوق الأسهم، وارتفاع التضخم. ثم ازمه عام 1997، وهي أزمه أسواق شرق آسيا. وفجأة تعود الكرّة مرة أخرى، وسط أزمة “الرهن العقاري” عام 2008، حيث الكساد الكبير والخسائر الكبيرة بالأموال. وما إن بدأ العالم بالتعافي حتى ارتطم بأزمة ” اليورو” عام2009 ، ومن ثم يرتطم مرة أخرى بأكبر أزمة منذ تسعين عاما وهو فيروس كورونا عام. 2020ومثلما العالم أزمات متوالية، فأنه كذلك أزمات اقتصادية لا تهدأ، لا ترحم الدول والبشر، عمل وبطالة، وجوع وحرمان، فقر وغنى، بيع وشراء، وسلاسل مطاعم وطيران وسياحة، ونوبات ركود وأضرار جسيمة. فالأعمال تغلق أبوابها، والإنفاق الاستثماري يخضع للتخفيض، والناس يعانون من البطالة. والآفاق لا تزال محاطة بقدر كبير من عدم اليقين.يطوي تفشي فيروس كورونا عامه الثاني بعد إن أوقف العجلة الاقتصادية العالمية عبر القارات والاقتصادات. فأربك الدول الغنية وأنهك الدول الفقيرة. وفيما يستمر بانتشاره السريع وتتسابق الشركات المصنعة للأدوية على تسجيل لقاحاتها، لا يزال عدم اليقين يسيطر على التوقعات الاقتصادية العالمية. فالخسائر التي تكبّدها الاقتصاد العالمي نتيجة الإغلاقات الكاملة أو الجزئية خلال الموجة الأخيرة للفيروس، لا تزال غير واضحة. ومعها يصبح مستقبل البشرية غامضا، وعلى “كف عفريت” كما يقال.ما يثير القلق ظهور سلالات جديدة من الفيروسات المتحورة الجديدة، هندية وبريطانية وأفريقية وآسيوية. وفطر أسود، جعل الدنيا سوادا في أعين البشر بعد شهقة أمل اللقاح، كأنه ينذر بموجات جديدة بأشكال وأنواع مختلفة، حيث تتراكم الخسائر البشرية من جراء الفيروسات، في الوقت الذي تتزايد فيه تغطية اللقاحات وتبعث شعورا بالتفاؤل.أعرف إن الأرقام تزعج القارئ العربي، لكن للضرورات أحكام، فقد خسر الاقتصاد العالمي بسبب الكورونا اللعينة 13 تريليونات دولار. والعبء الأكبر على الدول النامية. ومن المتوقع أن يبلغ النمو العالمي 6% في عام 2021? ثم يتراجع إلى 4,4 بالمئة في عام 2022. وتقول إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة إن 131 مليون شخص إضافي دُفعوا إلى براثن الفقر في العام 2020، العديد منهم من النساء والأطفال والأشخاص من المجتمعات المهمشة.كما سيكون هناك تراجع عالمي في الناتج 3 بالمئة، والدين العالمي إلى مستويات قياسية تبلغ 100في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، و1.25 مليار شخص مهددون بالبطالة. ولتقريب حجم الخسارة فإن خسارة الاقتصاد العالمي “توازي حجم اقتصادّي ألمانيا واليابان”.ربما أعيد ما توقعته في بداية فيروس كورونا بأننا سنرى العجب بما نسمعه ونراه عن الفيروسات المتحورة،” عش رجبا، ترى عجبا”، والاقتصاد العالمي يحتاج إلى معجزة في ضوء السيناريو الحالي، ووقائع الميدان، والفيروسات المتحورة، وأرقام المنظمات الدولية.أما العراق، فهو خارج التغطية، وقصته مع الاقتصاد العالمي، تبدو عجيبة، فهو “لا في العير ولا بالنفير “. بلد لا يعيش إلا بالأزمات، فهو ولاّد أزمات، وخلطة عجيبة بالاختلافات والتوافقات، لكنه متوافق على الفساد والصفقات المشبوهة.فالمليارات ما زالت تعبر الحدود، بعضها يذهب للمصارف العالمية، والأخرى لنصرة الدول والمقاومة والجيوش الفضائية. رغم إن مديونيته 160 مليار دولار، ولا يستطيع دفع رواتب موظفيه إلا بالاقتراض، وشعبه غارق بالفقر والمرض، وفضاءه خرائب متهالكة، وشوارعه معطرة بروائح المجاري والمزابل!أستطيع القول، بمنطق التوقعات، مازال العالم في خطر، فهناك صراع بين العلم والفيروسات المتحورة. وهناك توحش النظام الرأسمالي الذي ينهش في البيئة والصحة والاقتصاد، ويحاول تعظيم أرباحه من خلال أزمة كورونا. لذلك نحتاج إلى وقت غير قصير لكي نتنفس الصعداء، لأن ندوبها مازالت تندمل ببطء شديد. لا تنغروا بالصور والأخبار عن اختفاء الفيروس، فهو خبيث لعين لا يؤتمن جانبه، متقلب الود والمزاج. لذلك لا تستعجلوا في خلع الكمامات، وحافظوا على التباعد الاجتماعي، ولاتفكروا في خرائط ومنحنيات الاقتصاد. فقد “وقع الفأس بالرأس”، وليس لدينا إلا رب رحيم، وشعلة من الأمل نرفعها في عتمة ظلمة الأزمات!سبحان الله مغيّر الأحوال، تغيّرت حياة البشر، وانقلبت موازين الدول رأسا على عقب. فما وراء سحب الاقتصاد تختفي أسرار دول وبشر، حيث تسحّق مجتمعات، وتتهاوى عروش اقتصادية كبرى، وتنهار شركات ضخمة، وقيم تتبدّل، وأمزجة تتقلّب، وكأن الدنيا تقول لنا ” لا تصارع الخنزير في الوحل فإنك تتسخ، وهو يستمتع “!