ماالذي افرزته الانتخابات الايرانية ؟
الكاتب : حسن فحص
فرزت الانتخابات البرلمانية الإيرانية التي جرت في 21 فبراير (شباط) الحالي، جملةً من الحقائق يمكن التوقف عند الكثير من دلالاتها السياسية والاجتماعية، لأنها قد تشكّل مؤشراً إلى المسار أو المنحى الذي يتجه نحوه النظام بخطى ثابتة. ووجدت تعبيراتها في عددٍ كبيرٍ من التعليقات والكتابات حول الوضع الإيراني الداخلي والصراع على السلطة، وصولاً إلى القراءات التي رافقت هذه الانتخابات الأخيرة، والحديث عن سيطرة مؤسسة “حرس الثورة الإسلامية” على مفاصل القرار في النظام، عبر المشاركة المباشرة بترشيح أعضاء متقاعدين أو سابقين، أو من خلال دعم مرشحين آخرين يمثلون قوى وأحزاب التيار المحافظ.
فعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها النظام بكل مؤسساته لإنجاز هذه الانتخابات لتكون بمثابة استفتاء جديد على شرعيته وشعبيته، ومحاولات استعادة اللحظة التاريخية التي ترافقت مع التشييع الشعبي والقومي للجنرال قاسم سليماني، والتي وظّفها حينها في إطار دعم شرعيته الداخلية، ولنفوذه الإقليمي، إلاّ أنّ حجم المشاركة المتدني الذي لم يكشف فقط عن العزوف الشعبي عن المشاركة، بل أيضاً أعاد إلى الأذهان ما سبق أن كشف أحد نواب المجلس في دورته السادسة المخرج السينمائي بهروز أفخمي، عندما وقف في آخر جلسة علنية للبرلمان آنذاك وتحدث عن الحجم التمثيلي للتيار المحافظ وأحزابه، مؤكداً أن شعبية هذا التيار في العاصمة طهران لا تتعدّى 12 في المئة بأفضل الأحوال، ولا تتجاوز نسبة 17 في المئة في كل إيران. لذلك، فإن الشارع الشعبي في البلاد يتعاطى مع الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة الداخلية حول نسبة المشاركة في الانتخابات إن كان في طهران (25 في المئة) أو في كل إيران (42.57 في المئة) على أنها لا تمثّل الحقيقة، إذ يدور الحديث عن أن نسبة المشاركة في العاصمة لم تتجاوز 16 في المئة، وفي كل إيران ما بين 25 إلى 30 في المئة.
تراجع نسبة المشاركة الشعبية، حاول النظام التفتيش عن مسوّغات لها تساعده في التنكّر للأسباب الحقيقية وتراكمات الأخطاء السياسية والاقتصادية والإدارية التي عاشتها إيران نتيجة سياسات التيارَيْن الإصلاحي والمحافظ والصراع بين مراكز القرار الذي لم تكن مؤسسة حرس الثورة بعيدة منه أيضاً، ولم تفلح الذرائع التي قدمها لأسباب المقاطعة الشعبية بسقوط الطائرة الأوكرانية والخطأ الذي ارتكبته القوات الصاروخية “لحرس الثورة”، وحالة الهلع التي سادت بسبب تفشي فيروس كورونا، في التخفيف من حجم تراجع التأييد المترافق مع بلورة حالة من الاعتراض الشعبي الواسعة والعميقة للنظام وآلياته في السلطة.
وهذه النتائج تحمل دلالات واضحة، إذا ما قورنت بنتائج سابقة للتيار المحافظ أو الإصلاحي المنافس، وتكشف عن تراجع واضح وصريح في شعبية النظام والتيار الذي يمثله في الحياة السياسية، بحيث بات من الصعب على النظام إخفاؤها أو الالتفاف عليها، بمسوّغات مختلفة تصبّ كلها في إطار المؤامرة والتآمر على النظام، عن طريق ما يقوله المعارضون باللجوء إلى هندسة نتائج صندوق الاقتراع، خصوصاً أنه لجأ إلى هذه الهندسة قبل الانتخابات، مستخدماً ذراع لجنة دراسة أهلية المرشحين في مجلس صيانة الدستور التي تكفّلت تنظيف الطريق أمام مرشحيه للدخول في معركة انتخابية لا منافس حقيقي فيها أو إذا ما وُجد فإنه غير قادر على إحداث فارق أو تغيير.
ومن الدلالات التي قد تشكّل مؤشر تراجع في قبضة النظام السياسية، العودة إلى الاستعانة بوجوه محسوبة على التيار الأصولي التقليدي، ممثلاً بحزب “المؤتلفة الإسلامي”، خصوصاً في العاصمة طهران، وهو الحزب الذي يمثّل الإسلاميين التقليديين وجماعة البازار. ولعلّ حصول أبرز شخصيات هذا الحزب مصطفى مير سليم على المرتبة الثانية للفائزين على قائمة التيار المحافظ، محطة أساسية على طريق فهم حاجة النظام إلى الاستعانة بـ”الحرس القديم” بعدما خاض معهم معركة قاسية لاستبعادهم عن مراكز القرار، خصوصاً في المرحلة التي تلت إخراج الإصلاحيين من السلطتين التنفيذية والتشريعية في زمن الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد، وقد اعتُبرت حينها المعركة داخل البيت الواحد، وقف فيها النظام ومؤسسة “حرس الثورة” وبعض المؤسسة الدينية المؤيدة للتيار المحافظ إلى جانب القوى الجديدة الناهضة التي أُطلق عليها اسم “المحافظون الجدد”، وهي المعركة التي أدت إلى فشل مرشحي هذا الحزب والأحزاب التقليدية في الحصول على المكاسب التي كانت تطمح إليها وترى فيها حقاً تاريخياً لجهة الدور الذي لعبته “كحارس” اجتماعي وديني وثقافي واقتصادي للنظام ومؤسساته. إلاّ أنّ العودة إلى الدفع بهذه القوى التقليدية إلى الواجهة قد يدلّل على أنّ النظام يواجه أزمة في تجديد قاعدته الشعبية. بالتالي، لم يكن أمامه خيار سوى الاستعانة بهذه القوى التقليدية التي كانت قادرة طيلة العقود الماضية على الحفاظ على ما تمثله شعبياً نظراً إلى ارتباطها بالمصالح الاقتصادية وسيطرتها على “البازار”.
المفاجأة الأبرز في هذه الانتخابات، النتائج التي حققها التيار المحسوب على الرئيس محمود أحمدي نجاد، الذي استطاع في محطات عدّة، خصوصاً في السنيتن الأخيرتين من ولايته الثانية، وبعد خروجه من الرئاسة وفشله في وضع أحد مساعديه وصندوقه الأسود بين مرشحي الرئاسة، وصولاً إلى منعه بقرار من المرشد الأعلى من المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتحوّله جراء المواقف الحادة التي أعلنها ضد شخصيات بارزة في النظام وتحديداً رئيس السلطة القضائية ولاحقاً رئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام صادق لاريجاني واتهامه بالفساد والمحسوبية، فضلاً عن بعض المواقف التي تحدّى فيها إرادة المرشد الأعلى ومعارضته في بعض السياسات، التي انتهت جميعها بتحوّله إلى زعيم “التيار المنحرف أو الانحرافي” عن التيار المحافظ وخارجاً عن المسمّى الذي أُعطي له بزعامة تيار المحافظين الجدد.
قد يكون من المبكر توصيف الدور الذي يلعبه أحمدي نجاد والمقربون منه بأنه بات يشكّل “تياراً جديداً” في الحياة السياسية الإيرانية، إلاّ أنّ النتائج التي حصل عليها مقربون منه في الانتخابات الأخيرة وسيطرتهم على أكثر من 13 مقعداً من مقاعد التيار المحافظ، يُعدُّ رقماً كبيراً ومؤثراً إذا ما قورن بالرقم الذي حصل عليه التيار الإصلاحي بكل أحزابه وأجنحته ولم يتجاوز الـ 19 مقعداً. بالتالي، فإن هذه النتائج ستعيد وضع أحمدي نجاد الجماعة التي يمثلها أو تلك التي وقفت خلفه وإلى جانبه فكرياً ودينياً وسياسياً في المرحلة السابقة وأُجبرت على التراجع في المرحلة الأخيرة بضغط من النظام وقيادته السياسية والعسكرية، ستعود إلى تبني هذا الخيار من جديد والدفع به إلى الواجهة، انطلاقاً من قدرته التمثيلية الشعبية، ما قد يعيد وضعه على خريطة المنافسة مع التيار المحافظ من جديد وبشكل أكثر تأثيراً. وهذا يعني في المحصّلة أنّ النظام وكل مراكز القرار التي يسيطر عليها، لم تستطع القضاء على شيء اسمه “ظاهرة أحمدي نجاد”، على الرغم من أنها هي التي أسهمت في نشوئها وتبلورها في العقد الأخير من تاريح النظام.