لماذا قاطع العراقيون إنتخابات المجلس التأسيسي ؟
الحركة الوطنية تطالب ببديل عن الإنتداب لماذا قاطع العراقيون إنتخابات المجلس التأسيسي ؟ – محمد مظفر الادهمي
عندما فرض الانتداب البريطاني على العراق في نيسان 1920 طالب العراقيون في بغداد والمدن الاخرى إجراء انتخابات لعقد مؤتمر عراقي يقرر شكل الحكم والحاكم في العراق ، وكان لمماطلة البريطانيين في تحقيق هذا المطلب احد العوامل في اندلاع الكفاح المسلح لثورة العشرين، التي اجبرت البريطانيين على الاسراع بالاستجابة لمطالب العراقيين لما تكبده البريطانيون من خسائر في الارواح والاموال ، فقاموا في البداية بتشكيل حكومة عراقية مؤقتة مهدت لانتخاب الامير فيصل بن الحسين ملكا على العراق في 23 آب 1921 ولم يوافق البريطانيون على اجراء انتخابات المؤتمر العراقي الذي سمي بالمجلس التأسيسي الا بعد ان اجبروا الحكومة والملك على توقيع المعاهدة العراقية البريطانية لعام 1922 والتي رفضها العراقيون لانها تضمنت بنود الانتداب البريطاني ، بينما ارادتها الحركة الوطنية بديلا عن الانتداب وطريقا لتحقيق الاستقلال .المقاطعةبعد أسبوعين من بدء الانتخابات أصدر رجال الدين تحت قيادة الشيخ مهدي الخالصي فتاوى بمقاطعة الانتخابات ، وقد صدرت الفتاوى في النجف وكربلاء والكاظمية موجهة إلى المسلمين في العراق حرمت المشاركة في الانتخابات لأنها ضد رغبات الشعب. وقد جاء في فتوى الخالصي ان الاجواء لم تعد ملائمة لاجراء الانتخابات بعد ان استخدم البريطانيون القوة العسكرية ، وإغلقوا الأحزاب السياسية ونفوا الوطنيين خارج البلاد ، وقصفوا العشائر بالطائرات وقتلوا العديد من الأطفال والنساء وكبار السن، من اجل اجبار العراقيين المنتفضين على القبول بالمعاهدة الانتدابية . وعليه فقد افتوا بتحريم المشاركة في الانتخابات. كما وزعت منشورات غير موقعة من جهة معينة تدعوا الناس لإطاعة الفتاوى بمقاطعة الانتخابات.ولكي تأخذ الفتاوى الدينية طابعاً وطنياً بعيداً عن المذهبية والطائفية ، فإن فتوى الشيخ مهدي الخالصي وفتاوى رجال الدين الآخرين في الكاظمية ، قد وقعها رجال الدين السنة ووضعوا أختامهم عليها ، ، ثم جرت عملية استنساخ كبيرة للفتاوى وتم توزيعها في جميع أنحاء العراق ، وصدرت فتاوى من رجال الدين المسيحيين في الموصل حثت طائفتهم على دعم الوحدة الوطنية للشعب العراقي وذلك بمقاطعة الانتخابات. وهكذا توقفت الانتخابات في جميع أنحاء العراق في مطلع عام 1923.امام هذا الفشل، استقالت الوزارة باجمعها.. فشكل عبدالمحسن السعدون الوزارة الجديدة ، وأصبح وزيراً للداخلية بالإضافة إلى منصبه . وفي محاولة من الوزارة الجديدة لكسب الرأي العام وإعادة سير الانتخابات ، فقد أعلنت عزمها على ضمان الحرية التامة في الانتخابات ودعم حرية الصحافة وتشكيل الأحزاب السياسية. كما أعلنت الوزارة، وبموافقة المندوب السامي البريطاني ، عن السماح بعودة المنفيين إلى البلاد. وقرر مجلس الوزراء السماح للحزبين المحظورين المناهضين للمعاهدة الانتدابية ، الحزب الوطني وحزب النهضة باستئناف نشاطهما .ومع ذلك فإن جميع هذه الأجراءات لم تكن كافية لمنع توقف الانتخابات بشكل تام ، لان المشكلة الاساسية هي المعاهدة الانتدابية التي مدتها 25 سنة والتي كان العراقيون يرون ان الانتخابات ستزور للمجيء بمجلس يوافق عليها . ولذلك قرر البريطانيون تقليص مدة المعاهدة من 25 سنة الى اربع سنوات . ووقع بروتوكول تقليصها في 30 نيسان 1923 كما اشترط البروتوكول أن يصبح العراق عضواً في عصبة الأمم قبل أن تحل نهاية السنة الرابعة، وأن تلغى المعاهدة حالما يصبح العراق عضواً في العصبة .وبعد نشر هذا البروتوكول في الصحف العراقية وجه الملك فيصل الأول رسالة إلى الشعب العراقي حثهم فيها على دعم الحكومة في مساعيها لجمع المجلس التأسيسي لكي يشرع القانون الأساسي للبلاد ، لأن وجود دستور للبلاد هو أحد شرطين لكي يصبح العراق عضواً في عصبة الأمم خلال أربع سنوات . ثم قام الملك فيصل الأول بزيارة الموصل والكوت والعمارة والبصرة والناصرية و الديوانية والحلة . وفي كل لقاءاته العامة والخاصة نبه إلى خطورة تأخر إجراء الانتخابات . وأكد أن الحكومة العراقية هي ليست حكومة (الأفندية) المعادين لمصالح العشائر .والحقيقة ان الملك فيصل الأول كان ،ومنذ المرحلة الأولى من الانتخابات على اتصال بقادة ثورة العشرين ،مثل عبدالواحد سكر وشعلان أبو الجون وعلوان الياسري وكاطع العواد ، حيث كان يحاول استرضاءهم . وبعد تقليص مدة المعاهدة العراقية البريطانية إلى أربع سنوات وافق الشيوخ على رأي الملك فيصل الأول بضرورة استئناف الانتخابات ، وحاولوا التوسط لدى رجال الدين لكنهم فشلوا، ووزعت فتاوى جديدة اعلنت ان تحريم المشاركة في الانتخابات ما زال قائما، مما دفع الحكومة الى اعتقال ونفي قادة المقاطعة الى خارج العراق وفي مقدمتهم الشيخ مهدي الخالصي وولديه .استئناف الانتخاباتإن هذه الإجراءات والجهود قد سهلت استئناف الانتخابات يوم 12 تموز 1923 و تم تسجيل الناخبين الاولين من الذكور ممن اكملوا 21 سنة والذين يقومون بانتخاب الناخبين الثانويين الذين لا تقل اعمارهم عن 25 سنة ،وهؤلاء ينتخبون في المرحلة الثانية من الانتخابات المرشحين لعضوية المجلس التأسيسي الذين اكملوا 30 سنة من العمر ، وقد ساعد ايضا حل بعض المشاكل بزيادة التمثيل العشائري في المجلس التأسيسي القادم ، كما ساعد قرار عصبة الامم تأجيل مناقشة قضية ولاية الموصل لمدة سنة واحدة على استئناف الانتخابات في الشمال ، خصوصا بعد إلغاء معاهدة سيفر في مؤتمر لوزان عام 1923والتخلي عن فكرة تكوين دولة للكرد .ولكي تضمن الحكومة مشاركة الكرد في الانتخابات فقد وافق مجلس الوزراء العراقي على مقترح المندوب السامي البريطاني بضرورة إعطاء جميع المناطق الكردية في العراق الضمانات الثلاث التالية قبل مشاركتها في الانتخابات وهي عدم تعيين الموظفين العرب في المناطق الكردية وان لا تكون اللغة العربية الزامية في المناطق الكردية وضمان حقوق كافة الاقليات بشكل واف .وعندما استؤنفت الانتخابات حدث انقسام لدى الحزبين الوطنيين ، الوطني والنهضة ، فقد أعلن حزب النهضة أنه لن يشارك في الانتخابات ، بينما انقسم الحزب الوطني على نفسه ، لأن بعض قادته مثل جعفر أبوالتمن وحمدي الباجه جي أصروا على الاستمرار في مقاطعة الانتخابات. بينما رأى قادته الآخرين مثل أحمد الشيخ داود و مولود مخلص ، ضرورة المشاركة في الانتخابات ، وشاركوا فيها كمستقلين وليس كحزب .انتخب الناخبون الاولون المرشحون من الناخبين الثانويين بهدوء سواء في المدن او المناطق العشائرية . لدرجة أن بعض الصحف وصفتها بالجمود والفتور .الا ان التنافس بين معارضي المعاهدة ومؤيديها من المشاركين والمرشحين في انتخابات الناخبين الثانويين قد أثارت خشية البريطانيين من سيطرة المعارضة على نتائج الانتخابات بعد أن لاحظوا أن أتباع الملك فيصل من متصرفي الألوية وغيرهم من الذين لهم مواقع مؤثرة في الإدارة ،يساعدون زملاءهم السابقين من جماعة الحزب الوطني الذين شارك بعضهم في الانتخابات .إن هذه الظاهرة التي برزت في الموصل وبغداد وكربلاء والدليم قد أثارت المندوب السامي البريطاني الذي وجه رسالة إلى الملك شرح فيها خشيته من تغلب المعارضة واتهم الملك فيصل برغبته( في أكثرية للمتطرفين في المجلس التأسيسي ) وأنه يرى من واجبه إنذار حكومة الملك فيصل رسمياً ، وطالبه أن تعلن الحكومة العراقية صراحة أن سياستها مبنية على ضرورة إستحصال تصديق المعاهدة العراقية البريطانية .وفي جوابه للمندوب السامي رفض الملك فيصل هذه الاتهامات وأكد بأن هدفه هو تصديق المعاهدة . مما جعل المندوب السامي يعتذر عن لغة رسالته للملك متحججاً أن ترجمتها له لم تكن موفقة ولأنه لم يرفق معها ترجمة بالعربية . وهكذا بدأت الحملة الإعلامية والرسمية لصالح تصديق المعاهدة بناء على طلب المندوب السامي ، بمقالة في جريدة الأوقات البغدادية في العاشر من أيلول أعلنت فيها أن رفض المعاهدة يعني انسحاب القوات البريطانية من العراق الذي لا يمتلك القوة الكافية للدفاع عن نفسه . وبعد يومين كتبت جريدة العراق شبه الرسمية مقالة بالمعنى نفسه . وفي 25 أيلول أعلن رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون في تصريح صحفي بأن العراق سيصبح في وضع خطير جداً إذا لم يصادق على المعاهدة ، وطلب من الناخبين الثانويين أن يأخذوا هذا الموضوع بعين الاعتبار عند انتخابهم أعضاء المجلس التأسيسي. وعموماً فإن انتخابات الناخبين الثانويين قد اكتملت في جميع أنحاء العراق في بداية شهر شباط 1924.أراد الملك فيصل أن يسترضي رجال الدين قبل إجراء انتخابات أعضاء المجلس التأسيسي ، وذلك بإعادة المنفيين منهم الى البلاد ، فأجرى اتصالات معهم لهذا الغرض . ولما كانت وزارة عبد المحسن السعدون هي التي نفذت عملية الإبعاد ، فقد كان من الضروري أن تستقيل الوزارة لاسترضاء رجال الدين المنفيين واتباعهم في جنوب العراق. فاستقال رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون ، وشكل جعفر العسكري الوزارة الجديدة . وبعد بضعة أشهر ، وعندما كان المجلس التأسيسي يوالي اجتماعاته ، عاد رجال الدين المنفيين إلى العراق بهدوء باستثناء مهدي الخالصي ، وقد تعهدوا بعدم التدخل في السياسة.انتخـاب أعضـاء المجلس التأسيسياقترح المندوب السامي أن تدعم الحكومة العراقية صراحة المرشحين الذين يلزمون أنفسهم بالتصويت للمعاهدة العراقية البريطانية ، وخلال انتخابات الناخبين الثانويين حث مستشار وزارة الداخلية يوم 11 أيلول 1923 كل المفتشين الإداريين في الألوية على إبراق أسماء المرشحين الذين يوصي بانتخابهم المفتش الإداري البريطاني والمتصرف لعضوية المجلس التأسيسي ممن سيصوتون للمعاهدة . وقد أرسل كل المفتشين الإداريين في جميع الألوية أسماء المرشحين الذين يوصون بانتخابهم . وبعد دراسة هذه الأسماء ، أرسل مستشار وزارة الداخلية كورنوالس في 8 شباط 1923 إلى كل مفتش إداري بريطاني في كل لواء قائمة بالمرشحين المطلوب انتخابهم عن اللواء لعضوية المجلس التأسيسي . وأوضح أن هذه القائمة هي نتيجة للمدلولات التي تمت بينه وبين الملك فيصل ورئيس الوزراء جعفر العسكري ، وقد اضيفت اليها اسماء من المعارضة بناء على طلب الملك ورئيس الوزراءومن أجل دعم قائمة المرشحين هذه فقد قررت الحكومة العراقية إيفاد الوزراء إلى الألوية في مهمة للحصول على تأكيد من مرشحي الحكومة بالتصويت للمعاهدة والقيام بحملة مفتوحة أمام الناس لصالح هؤلاء المرشحين.ومع ذلك فقد أبلغ مستشار وزارة الداخلية كورنوالس جميع المفتشين البريطانيين في الألوية أن لا يعتمدوا كلية على الوزراء لأنه كان يشك ، ولأسباب عديدة من أن بعضهم سيعمل قلبياً لصالح بعض المرشحين غير المرغوب بهم ، ولذلك فهو يفضل الاعتماد على الماكنة السرية للمتصرفين والقائمقامين في الألوية .وفي 13 شباط 1924 أبلغت وزارة الداخلية متصرفي الألوية أن انتخابات أعضاء المجلس التأسيسي من قبل الناخبين الثانويين يجب أن تبدأ في 25 شباط ، وقبل ثلاثة أيام من بدء الانتخابات أصدر رئيس الوزراء جعفر العسكري بياناً أعلن فيه موعد بدء الانتخابات وطلب من الذين سيفوزون بثقة الشعب في عضوية المجلس التأسيسي أن يصادقوا على المعاهدة العراقية البريطانية التي هي نتيجة للجهود الكبيرة التي بذلها الملك فيصل والحكومة العراقية والتي لن تتجاوز مدتها أربع سنوات . وأضاف أنه على الأعضاء تقدير الموقف الصعب للبلاد والحاجة إلى مساعد بريطانيا في قضية ولاية الموصل .وعليه فإن تصديق المعاهدة سيضمن حياة البلاد واستقلالها. وحذر من أن الانقياد وراء العواطف ربما سيجعل مستقبل العراق في خطر لا يمكن تلافيه.وفي 25 شباط جرت الانتخابات بدون أية معوقات باستثناء الموصل فقبل يومين من الانتخابات ، وفي مساء يوم 23 شباط ، عقد اجتماع في أحد جوامع الموصل ،وقد حث سعيد الحاج ثابت الناس في كلمته على مقاطعة الانتخابات لأنها غير شرعية ، وألصقت نسخ منها على جدران المدينة . وفي اليوم التالي تم اعتقال سعيد الحاج ثابت وأتباعه ، وجرت الانتخابات بعد ذلك بدون صعوبات .ويبدو أن هذه الدعوة لمقاطعة الانتخابات كانت احتجاجاً على الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في الموصل لتحجيم المعارضة ، كما كانت احتجاجاً على إبعاد قائد المعارضة مصطفى الصابونجي إلى بغداد، وكان عضواً في اللجنة العليا للانتخابات وصديق لمتصرف الموصل السابق رشيد الخوجة الذي اتهم بدعمه للمعارضة وتم نقله إلى لواء آخر.ومع أن الصابونجي قد نفي إلى بغداد فانه قد حصل على 95 صوتاً في انتخابات أعضاء المجلس التأسيسي ،وقد اعتبر رقماً عالياً قياساً بأعلى رقم حصل عليه أمجد العمري وهو 142 صوتاً . وعموماً فإن خمسة من المعارضة قد انتخبوا من مجموع مندوبي الموصل البالغ عددهم 14 عضواً وهي أعلى نسبة حصلت عليها المعارضة قياساً ببقية الألوية .وبمقارنة نتائج الانتخابات بقائمة الحكومة ، فإننا نجد أن 74 من 98 مرشحاً في القائمة الرسمية قد انتخبوا أعضاء في المجلس التأسيسي .وأن 15 من الذين انتخبوا كانوا من المعارضة ، خمسة منهم لم يكونوا مدرجين في القائمة .إن خلفية وتكوين أعضاء المجلس التأسيسي المنتخبين تبين أن غالبيتهم كانوا من ملاك الأراضي الكبار وتجار متوسطي الأعمار وأعضاء من العوائل العريقة . كما شكل شيوخ العشائر حوالي ثلث أعضاء المجلس .وكان هناك من الأعضاء ستة محامين هم رؤوف الجادرجي وفؤاد الدفتري وناجي شوكت و ورابين بطاط ومزاحم الباجه جي وآصف آغا . وانتخب أربعة من الأعضاء السابقين في مجلس المبعوثان العثماني منهم عبد المحسن السعدون وعبد المجيد الشاوي وعبد الرزاق منير ، كما أصبح ثلاثة من المندوبين الخمسة عشر الذين طالبوا بعقد مؤتمر عراقي منتخب أعضاء في المجلس ، وستة من أعضاء اللجنة الانتخابية التي وضعت نظام الانتخابات للمجلس ، وبعض الضباط الذي خدموا مع الملك فيصل في الثورة العربية عام 1916 والحكومة العربية في دمشق مثل جعفر العسكري ونوري السعيد وعلي جودت الأيوبي وياسين الهاشمي .وعموماً فإن العناصر المثقفة شكلت الأقلية في المجلس قياساً بغالبية من الذين لا يعرفون القراءة والكتابة أو حصلوا على تعليم محدود.وهكذا انتهت انتخابات المجلس التاسيسي الذي طالب به العراقيون منذ عام 1920 في صراعهم مع البريطانيين ،ليبدأ صراع جديد عندما ناقش المجلس التأسيسي المعاهدة والدستور وقانون انتخاب النواب .وتلك قصة اخرى.