لماذا عراقيو الخارج أشد تطيفاً؟ (2)
لماذا عراقيو الخارج أشد تطيفاً؟ (2) منقذ داغر
في الجزء الأول تم تحديد مفهوم الطائفية وتمييزها عن المذهب الفقهي الذي يمكن أن يتبناه أي شخص،لأنها تمثل منظومة ثقافية هوياتية جماعية وليست فردية يتم من خلالها الحكم على الأشخاص والجماعات والثقافات الأخرى. لقد وجد علماء نفس الأجتماع عند دراستهم لمجتمعات المهاجرين في أوربا وأمريكا منذ تسعينات القرن الماضي،أن هؤلاء المهاجرين يختلفون في نمط تقبلهم للثقافة الجديدة التي يعيشون فيها ويعانون خلالها مما يسمى بالصدمة الثقافية cultural shock بخاصة للجيل الأول من المهاجرين .قسم أحد العلماء المختصين أنماط التكيف الثقافي acculturation للمهاجرين الى أربع أنماط رئيسية أعتماداً على مدى تقبل او رفض الثقافة الجديدة ،ومدى التمسك أو ترك الثقافة الأصلية للمهاجر. فالذين يقبلون الثقافة الجديدة ويتركون القديمة هم المنصهرون في المجتمع،أما الذين يتمسكون بالثقافة الموروثة ويرفضون الثقافة التي يعيشون فيها فأسماهم بالمنفصلين.والذين يتقبلون كل من الثقافتين الموروثة والمعاشة يسميهم المتكاملون،وهم النمط الأقل عرضةً للمشاكل الفكرية والنفسية والثقافية لأقامتهم توازن بين ماضيهم وحاضرهم الثقافي.أما الفئة الأخيرة فهم الرافضين لحاضرهم الثقافي المعاش والمنفصلين عن ماضيهم الثقافي الموروث بسبب أبتعادهم عنه وهؤلاء يسميهم بالمهمشين.وقد وجدت الأبحاث الميدانية والأحداث السلوكية التي تعرض لها أفراد الفئة الأخيرة(المهمشين) أنهم الأكثر تعرضاً لأحتمالات التطرف الفكري بسبب ضياعهم الثقافي،وهم الأشد شعوراً بما يسمى في علم النفس بفقدان الأهمية(أي عدم أهميتهم في نظر الآخرين وهو شعور نفسي مؤذي جداً). هذا لا يعني عدم تعرض الفئتين الأولى(المنصهرون) والثانية(المنفصلون) لمشاكل سلوكية وثقافية وأجتماعية عديدة، لكنه يعني أن التمسك بثقافة ما(سواء كانت الموروثة أو التي يعيش فيها)يساعد كثيراً في التقليل من المشاكل الأجتماعية والنفسية التي يواجهها المهاجرون عموماً. ضمن هذا الأطار النظري،فأن التحليل السلوكي للمهاجرين الطائفيين والمقصودين في هذا المقال يشير بوضوح أنهم يقعون ضمن الفئة الثانية (المنفصلون)ممن لم يستطيعوا -بأرادتهم أو لأسباب أخرى- من أن يندمجوا في الثقافة التي أنتقلوا اليها فآثروا -مكرهين أو راغبين- التمسك بثقافتهم الأصلية كي لا يفقدوا كل خياراتهم الثقافية ويظلوا مستندين الى أساس ثقافي يضمن لهم التوازن والأمان النفسي.اختلاف جذريأن المشكلة الكبرى التي تفاقم أسباب وآثار الأنفصال عن الثقافة التي أنتقل لها المهاجر وتجبر الكثيرين منهم على رفضها هو الأختلاف الجذري بين نمطي الثقافتين الموروثة والمعاشة.فالثقافة العراقية الموروثة تتسم،وكما أثبتت كل الأبحاث التي أجريتها مع زملائي وسأنشرها في الكتاب،بجماعية فرط تصلبية.أن المجتمع العراقي مجتمع جماعي من الدرجة الأولى يكاد يلغي فردانية الشخص. كما انه يمتاز بمعايير وتقاليد وأعراف أجتماعية كثيرة وشديدة لا يجري التسامح في تجاوزها بخاصة على صعيد الجماعات الأولية(الأسرة والعشيرة والطائفة..الخ). لقد عرضت في الكتاب لمجموعة واسعة من تلك المعايير السلوكية والتي لا يتسع المجال لذكرها هنا. أما المجتمعات الغربية فهي مجتمعات ذات ثقافة شديدة الفردانية،لا تشكل فيها الجماعات الأولية أي أهمية. كما أن الفرد يمتلك حرية واسعة ومرونة أكبر في التقيد بتلك المعايير الأجتماعية الموجودة هناك.بالتالي يشعر المهاجرون-وبخاصة الجيل الأول منهم- بضياع ثقافي نتيجة عدم وجود ذات المعايير الأجتماعية التي تربوا عليها وتعودوها وأرادوها لأبنائهم. ومثلما يلجأ الذي يرى الماء يتسرب من بين يديه الى أحكام قبضته للحفاظ على ما تبقى منه،يحاول المهاجرون المغالاة في التمسك بأطارهم الثقافي المرجعي الذي نشئوا عليه( أي الجماعة). ولأن الدولة العراقية فشلت للأسف على مدار عقود طويلة في بناء هوية ثقافية جماعية تسمو على العشيرة والطائفة،فضلاً عن أن المغتربين يرفضون(أو لا يتمكنون) من الأندماج في الثقافة المجتمعية الجديدة، فأن الأطار الثقافي المرجعي الذي تتم العودة له والتمسك به هو الأطار الطائفي بصيغته الهوياتية وليس بصيغته المذهبية الفقهية.من جهة أخرى،ولأن المهاجرين لم يعودوا يعيشون في مجتمعاتهم الأصلية،فهم سيكونوا أحرراً أكثر في التعبير عن طائفيتهم ليس فقط من باب حريتهم الفكرية،بل الأهم من باب ما تمنحهم طائفيتهم من شعور بالأمان والأهمية كونهم ينتمون الى جماعة أولية متماسكة لها ثقافنها وطقوسها وحضورها المادي والنفسي. علمياً،فكلما قل شعور الفرد(المغترب هنا) بالأهمية والأمان النفسي،كلما أبدى مستويات أعلى من التمسك بالجماعة من خلال أظهار سلوكيات(طائفية) تؤكد أنتماءه للجماعة. من هنا يمكن فهم هذا المستوى العالي من الطائفية التي يعبر عنها المهاجرون العراقيون(على طرفي المعادلة وليس طرفاً واحداً فقط).بقي أن أشير أنني هنا أفسر ولا أنقد الخيارات الثقافية والدينية للمهاجرين. كما أني أعرف كثير من المغتربين العراقيين ممن تمكنوا من أقامة توازن رائع بين الأندماج مع المجتمعات الجديدة والمحافظة على الثقافة الموروثة (النمط المتكامل). كما أني كباحث، مطلع على الأبحاث التي أشارت الى المعوقات الكثيرة التي تضعها المجتمعات التي تتم الهجرة لها في وجه المهاجرين والمعاملة غير العادلة لهم من قبل بعض المجموعات السكانية مما يجعلهم ينكفأون على ذواتهم مؤسسين مجتمعات مغلقة تتشبث بالماضي وترفض الحاضر.