لماذا ستبقى القوات الأميركية بالخليج بعد انسحابها من العراق وأفغانستان؟
على الرغم من الجدل المحتدم في واشنطن بين أنصار انسحاب القوات الأميركية من الشرق الأوسط وإعادة نشرها في آسيا وأوروبا، لمواجهة التحدي الصيني والروسي، والمطالبين بإبقائها، يظل التيار الغالب في العاصمة الأميركية مؤيداً للإبقاء على هذه القوات في منطقة الخليج العربي لأسباب استراتيجية وسياسية واقتصادية، فما هي هذه الأسباب؟ ولماذا يتصاعد الجدل الآن حول هذه القضية؟ وما الذي يمكن أن تنتهي إليه؟
في بداية شهر أبريل (نيسان) الحالي، أصدر الرئيس الأميركي جو بايدن أوامره إلى وزارة الدفاع (البنتاغون) بنقل ثلاث بطاريات باتريوت مضادة للصواريخ من منطقة الخليج، بالتوازي مع إعادة توجيه حاملة طائرات وأنظمة مراقبة أخرى للعمل في مناطق أخرى، ما خفض عدد القوات الأميركية في المنطقة إلى أقل من 50 ألف جندي، بتراجع جديد عن المستوى الذي وصلته بداية العام الماضي وهو 90 ألف جندي، حينما كانت التوترات بين الرئيس الأسبق دونالد ترمب وإيران في أعلى مستوياتها على الإطلاق.
ستبقى أم سترحل؟
وفيما يردد البعض في واشنطن فكرة أن بايدن يعيد تشكيل الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وربما يتطلع إلى الانفصال عن المنطقة التي كانت تمثل أولوية عسكرية أميركية على مدى عدة عقود من أجل مواجهة أكبر المنافسين مثل الصين وروسيا، يرى آخرون أن السؤال الدائر الآن داخل دهاليز البيت الأبيض لا يتعلق بما إذا كانت القوات الأميركية ستبقى أم سترحل، وإنما يتمحور حول كم من القوات يكفي لتحقيق المصالح الاستراتيجية الأميركية في الخليج والشرق الأوسط.
وما يجعل هذه الأسئلة مثارة بشكل كبير في العاصمة الأميركية هو قرار الرئيس بايدن سحب جميع القوات الأميركية من أفغانستان قبل 11 سبتمبر (أيلول) المقبل، فضلاً عن خفض عدد القوات الأميركية في العراق واقتصار عملها مستقبلاً على عمليات التدريب، الأمر الذي ينظر إليه البعض على أنه قرار مزدوج، نظراً لأن بعض القوات الأميركية المنتشرة في الخليج العربي موجودة هناك لدعم العمليات العسكرية الأميركية في أفغانستان والعراق.
جدل قديم جديد
وعلى الرغم من أن الجدل حول فوائد بقاء القوات الأميركية في الخليج العربي ليس جديداً، إلا أنه اكتسب على مدى سنوات عدة زخماً أوسع بسبب تسليط الضوء على إنهاء حروب الولايات المتحدة التي لا نهاية لها في الشرق الأوسط، وطرح تساؤلات حول مكاسب واشنطن من الحفاظ على دورها التاريخي كضامن للأمن في الخليج حتى الآن.
لكن في مواجهة الآراء المتشددة المطالبة بعودة القوات الأميركية أو إعادة انتشارها في أماكن أخرى في أوروبا وآسيا، ظل التيار الغالب في الولايات المتحدة مرجحاً إبقاء القوات الأميركية حتى ولو بحجم أقل، طالما بقي العالم معتمداً على صادرات النفط والغاز من الخليج العربي، واستمرت الولايات المتحدة في صراعها مع إيران، وتواصلت جهود واشنطن لمنع طهران من أن تستحوذ على قدرات نووية أو تهاجم حلفاء وشركاء أميركا في المنطقة.
ذرائع المتشددين
ويستند موقف معسكر المتشددين المطالبين بانسحاب القوات الأميركية إلى أن المصالح الأميركية تتراجع في الخليج بسبب إنتاج الولايات المتحدة المتزايد من الطاقة وتنوع سوق الطاقة العالمي، وهو منطق عززه الرئيس الأسبق دونالد ترمب حينما غرد في يونيو (حزيران) عام 2019 بأن الصين تحصل على 91 في المئة من نفطها من المنطقة، بينما تحصل اليابان على 62 في المئة من نفطها من الخليج، مبدياً اعتراضه على حماية الولايات المتحدة ممرات الشحن للدول الأخرى من دون تعويض، وأنه يجب أن تحمي هذه الدول سفنها في رحلة كانت دائماً محفوفة بالمخاطر، بينما لا تحتاج الولايات المتحدة إلى أن تتواجد في المنطقة بعدما أصبحت أكبر منتج للطاقة في العالم.
ويدعي هؤلاء بأن المصالح الأميركية الأساسية في المنطقة لن تكون مهددة عقب انسحاب أميركا من أفغانستان بعد عدة أشهر، وتراجع عدد قواتها في العراق وإعادة تحديد مهماتهم لتصبح غير قتالية، بالتالي يمكن حماية المصالح الأميركية بتكلفة أقل وبمخاطر وموارد عسكرية أقل، وأن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى الحفاظ على وجود عسكري دائم في وقت السلم لحماية التدفق الحر للنفط، أو من أجل الدفاع عن أمن إسرائيل، أو مكافحة إرهاب “داعش” و”القاعدة” والجماعات المتطرفة المسلحة، أو منع ظهور هيمنة إقليمية معادية.
وعلاوة على ذلك فإن الولايات المتحدة ستوفر من وجهة نظرهم قدراً كبيراً من المال، إذا سحبت قواتها الموجودة في الخليج العربي واعادتها إلى الولايات المتحدة أو نقلتها إلى الساحة الأوروبية ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ لمنافسة القوى العظمى روسيا والصين.
أسباب إبقاء القوات الأميركية
غير أن هناك أسباباً عدة تحرك المناصرين لاستمرار وجود القوات الأميركية في الخليج للدفاع عن موقفهم، ويأتي على رأس هذه الأسباب أن معظم القوات الأميركية في الخليج العربي تدعم العمليات العسكرية الأميركية في كل من العراق وأفغانستان وتقوم بأدوار غير قتالية، مثل التدريب وتقديم المشورة ومساعدة القوات المحلية هناك. وطالما أن الولايات المتحدة ستحافظ على بعض من مهماتها في هذين البلدين، فلا يوجد سوى نطاق محدود لتخفيض عدد القوات الأميركية.
ويرفض هؤلاء فكرة أن نشر القوات الأميركية في الخليج كان يتعلق فقط بضمان حصول الولايات المتحدة على إمداداتها النفطية، وإنما يتعلق بحصول أصدقاء أميركا وحلفائها وشركائها في كل أنحاء العالم على إمداداتهم النفطية، وأن مصلحة واشنطن تتمثل في الحفاظ على استقرار أسواق الطاقة العالمية وردع المغامرات الإيرانية التي تؤثر على استقرار الأسواق.
وعلاوةً على ذلك، فإن عدم الاستقرار في المنطقة سيهدد شركاء واشنطن ويحتمل أن يخلق مزيداً من الملاذات الآمنة للجماعات المسلحة التي تسعى إلى مهاجمة الولايات المتحدة، بينما قد تؤدي تطلعات إيران الجيوسياسية في المنطقة إلى نشوب صراع مع الولايات المتحدة نفسها.
لن يوفر المال
ورداً على ذرائع توفير المال، يعتبر أنصار إبقاء القوات الأميركية أن القوات المتمركزة في دول مجلس التعاون الخليجي تعاني من عدد قليل جداً من الضحايا والإصابات. ويُعدّ وضع قواتها الحالي صغير نسبياً وغير مكلف قياساً بميزانية الدفاع الأميركية لعام 2021 التي تصل إلى 740 مليار دولار، فضلاً عن أن دول الخليج العربي توفر مرافق تدريب متميزة وتتحمل معظم تكاليف دعم القوات الأميركية، في حين سيُكلف نقل القوات الأميركية إلى أماكن أخرى حول العالم وزارة الدفاع الأميركية، مزيداً من الأموال.
الانعكاس السياسي
ومن الناحية السياسية، لا يولّد الوجود العسكري الأميركي الحالي عداءات محلية، أو يهدد الاستقرار الداخلي، أو يخلق مشكلات سياسية للبلدان المضيفة، أو يمثل سبباً لوقوع هجمات إرهابية.
والأهم من ذلك هو تداعيات أي انسحاب للقوات الأميركية على نفوذ واشنطن السياسي في الشرق الأوسط، لأن روسيا والصين تدركان جيداً القدرات الكبيرة التي لا تزال تتمتع بها الولايات المتحدة في المنطقة، لكنهما تعتقدان أيضاً بأن “القرن الأميركي” يقترب من نهايته، ما يخلق فرصاً لموسكو وبكين في الشرق الأوسط لتقييد حرية واشنطن في العمل وتعزيز مطالبة الصين بقيادتها للعالم مستقبلاً.
ملء الفراغ
ولا يُعدّ النشاط الدبلوماسي الروسي والصيني في المنطقة أخيراً وطرحهما مبادرات لحلول مختلفة، سوى جزء من رغبتهما ملء الفراغ الواسع الذي قد يترتب على تخلي الولايات المتحدة عن دورها الأمني التقليدي في الخليج والشرق الأوسط.
ولن يتوقف الأمر على ملء الفراغ السياسي بل سيمتد لملء الفراغ الأمني أيضاً، نظراً إلى تنامي القوة العسكرية الصينية بشكل مطرد خلال السنوات الأخيرة وبخاصة في أسطولها البحري، حيث يُنتظَر أن تتفوق الصين خلال عام على أسطول البحرية الأميركية من حيث عدد السفن القتالية (360 مقابل 297) وفقاً لتقرير صدر أخيراً في الكونغرس الأميركي.
وعلى الرغم من أن دوريات مكافحة القرصنة الصينية تسير حالياً تحت علم الأمم المتحدة قرب منطقة الخليج، إلا أن رغبة الصين في توسيع نفوذها العسكري يتضح من متابعة قاعدتها البحرية التي تتوسع باستمرار في جيبوتي، وإنشاء بكين أساطيل يمتد نطاق عملها إلى أقصى غرب المحيط الهندي قرب الخليج العربي.
خطر الانسحاب
ويحذر مؤيدو إبقاء القوات الأميركية من أن الانسحاب قد يقوّض مصداقية الردع التقليدي للولايات المتحدة، حيث يمكن لطهران أن تتصرف بشكل أكثر هجومياً، لأنها قد تعتبر تقليص الولايات المتحدة عديد قواتها، دليلاً على أن واشنطن لم تعد ملتزمة الدفاع عن شركائها في المنطقة، كما قد يجعل حلفاء واشنطن يقررون بالمثل، أن الولايات المتحدة لم تعد شريكاً أمنياً موثوقاً فيه وتتجه إلى تطوير برامجها النووية الخاصة بها، ما يحفز على سباق تسلح إقليمي واسع.
الصراع مع إيران
غير أن تقديرات القوات الأميركية تضع حتى الآن في الحسبان احتمال نشوب صراع مع إيران، بالتالي فإن خروج القوات الأميركية من الخليج العربي يتوقف على ما يمكن أن تنتهي إليه القضايا النووية والإقليمية في المنطقة. ولكن طالما أن واشنطن وطهران في حالة صراع، فإن سهولة وصول الجيش الأميركي إلى القواعد الإقليمية والوجود العسكري سيكون ضرورياً للاستراتيجية الأميركية.
ومع ذلك، يرى مراقبون أن الولايات المتحدة لن تحتاج مستقبلاً إلى الحفاظ على كل القوات، التي تتمركز حالياً في الخليج العربي بمجرد انتهاء العمليات العسكرية الأميركية في العراق وأفغانستان، وأنها قد تضطر إلى تقليص نسبي لحجم بعض القواعد وخفض عدد الأفراد العسكريين في الخليج، تزامناً مع تعزيز الدفاعات الجوية والصاروخية الحيوية، وفتح الباب عند الضرورة أمام نشر مزيد من القوات الأميركية.
ولكن لأن الوجود العسكري المتواضع للولايات المتحدة في الخليج العربي ميسور التكلفة ومن المهم استمراره سياسياً لردع المغامرات الإيرانية وطمأنة حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بالتزامها الأمني، والتأكد من رد الفعل السريع لحالات الطوارئ العسكرية، فإن الأمر يستلزم الإبقاء على الوجود العسكري الأميركي في الخليج