“لقد أصبحت التكنولوجيا، عندنا، ديناً جديداً لتعميم البله”
الكاتب : امين الزاوي
الغباء العالِم يعم في زمن التكنولوجيا المعقدة، يعوم على يابسة شبكات التواصل الاجتماعي المتعددة، كل شيء في انحدار، القيم الإنسانية الكبرى تتهاوى بصورة جنونية، مفاهيم الجمال والفكر والتنوير والصداقة والحب والجرأة واللغة وحتى الدين، كل شيء معرض للانتهاك، للاغتصاب الفعلي أو الرمزي على المباشر.
الدين الجديد يهدد كل شيء!
هل أصبح العالم بحاجة إلى مجيء نبي جديد؟
ها هي التكنولوجيا المعقدة التي أخذت مكان الدين في حياة الناس اليومية الاجتماعية والذوقية والاقتصادية، تشن حرباً مقدسة صليبية أو جهادية، على الجميع، على البشر والحجر والطير، أصبحت تهدد الكرة الأرضية التي ما عادت تستطيع التنفس.
لا تكنولوجيا من دون فلسفة قادرة على ترشيد التواصل وعقلنة الجنون وكبح دوامة الاستهلاك الذي بلغ مداه.
من دون نبي جديد، من دون نوح جديد قادر على إنقاذ البشرية من الطوفان العارم والمحدق بنا، فإننا ذاهبون إلى الغرق، إن العالم يدخل منطقة تلوث عام، يمكن أن نسميها عصر الأخلاق المتوحشة والمتناغمة مع الاستهلاك ومنطق السوق اللاهث والابتلاع السريع، ابتلاع الإنسان والحجر والرموز، عصر حروب مدمرة بصمت، من دون مدافع ولا طائرات ولا سيوف، كل شيء من حولنا أضحى ممكناً، والممكن هنا هو الذي يسمح بالخراب والانتحار.
الدين الجديد خلط كل شيء!
على شبكات التواصل الاجتماعي المتعددة، تستطيع أن تصبح محللاً اقتصادياً، مثلاً، تفتي في أمر اقتصاد بلد ما، تتنبأ كالعراف بسوق النفط والذهب والفوسفات وسعر العاج في أنياب فيلة لم تولد بعد في جنوب أفريقيا!
يستطيع الواحد أن يتحدث ويدلي برأيه ويناقش أكبر المتخصصين ويختلف معهم وينعتهم بكل النعوت، وهو لم يقرأ في حياته كتاب “المدخل للاقتصاد العام”، ولا يعرف أبجديات الاقتصاد. يقوم بذلك بكل “حرية” ولا أحد بإمكانه منع غبائه المستشري على الشبكة العابرة للقارات واللغات.
إنه الدين الجديد!
باستطاعتك أن تتحول إلى شاعر يلعب في ساحة الكبار، كل ذلك يحدث في ربع ساعة وأنت لم تقرأ قصيدة كاملة في حياتك، ولم تحفظ سوى ربما ما حملته الكتب المدرسية الباردة من أناشيد وطنية أصبحت في خبر كان، أناشيد أصبحت في سجل النكت التي لا تُضْحِك، بإمكانك أن تتجرأ وتكتب وتضع ما “تخربشه” في مرتبة ما كتبه الشاعر محمود درويش أو نزار قباني أو روني شار أو بودلير أو شيللر أو غوته، وأن تفرض “غباءك” على غيرك، وتشوه الشاشة بالذوق الرديء والاعتداء الموصوف على الجمال، وبكل بشاعة وتنكر، تصطف مع أمراء الشعر من الكلاسيكيين والحداثيين على السواء ولا أحد باستطاعته منعك، إنها ديمقراطية الغباء والبله، إنه الدين الجديد المدمر.
إنه الدين الجديد!
في ظل سيطرة الدين الجديد، أي التكنولوجيا، تستطيع أن تنصب نفسك أمير السرد في مجموعة الصنف الأول إلى جانب همنغواي أو تولستوي أو نجيب محفوظ ولا من رقيب، لقد اختلطت المعايير، وأضحى البحث عن نوح جديد منقذ مسألة ملحة وعاجلة.
يسمح لك الدين الجديد، أي التكنولوجيا، أن تصنع من نفسك داعية في ثلاثة أيام أو أقل بكثير، ثم تشرع في إصدار الفتاوى، في التحليل والتحريم، تتحكم في مصائر البسطاء، تزوج النساء وتطلق الرجال، وتطالب بإعدام هذا وشنق ذاك، كما يحلو لك، تستطيع من خلف جهازك وأنت تشرب كوكاكولا أن تدعو إلى الحرب ضد “الكفار” من مارك زوكربيرغ اليهودي إلى بيل غيتس إلى باستور وتطالب بسبي نساء بلدانهم وبقر بطون حواملهم واغتصاب أطفالهم ومصادرة أملاكهم، أن ترمي بالعامة من السذج إلى أتون الكراهية والاعتداء والفتنة ولا أحد يقف مانعاً لبلاهتك وغبائك، إنه زمن ديمقراطية الهراء.
تستطيع أن تتحول إلى طبيب ضد العقم، أو متخصص في التربية الجنسية أو في تفسير الأحلام، لا يهم، وتلعن اليهودي سيغموند فرويد لأنه لم يعلن إسلامه، وأن ما كتبه خارج عن الشرع وضده، وأنه عميل لإسرائيل، وأنت لم تقرأ في حياتك صفحة مما كتب فرويد، وتأكل عقول الناس البسطاء، وتستثمر في سذاجتهم، بخطاب تروج له التكنولوجيا، وتستقبل نساء تغتصبهنّ باسم “مطاردة” الشيطان الذي يسكن أجسادهنّ، ويستسلمن لرغباتك فيسكنهنّ شيطانك، كل ذلك على المباشر وبمباركة ديمقراطية الجهل، ومباركة الدين الجديد.
تستطيع، في ظل ديمقراطية الغباء، ودمقرطة البله، ومباركة الدين الجديد، أن تكون ما تريده، وأن تصنع لك مريدين في هذا الحقل أو ذاك، وأن تَنْصَب على الجميع، ولكنك لا تستطيع أن تنقذ أمة من التخلف، بل تستثمر في هذا الدين الجديد التكنولوجيا كي تكرس التخلف وتوسع دائرته أكثر فأكثر.
أيها السادة احترموا الذكاء الذي أنعم به علينا العلماء الكبار.
لقد أصبحت التكنولوجيا، عندنا، ديناً جديداً لتعميم البله.