كيف عالج الملك فيصل الطائفية؟
كيف عالج الملك فيصل الطائفية؟ – منقذ داغر
أعادتني الحاجة لتحليل الشخصية العراقية في كتابي الذي انكب عليه حالياً الى عمق المشكلة الطائفية في السياسة العراقية. وبعد ان أكد لي صديقي الباحث المختص في تاريخ الملكية في العراق أن الرسالة الشهيرة التي بعثها الملك فيصل الاول (مؤسس العراق الحديث) الى خاصته وأعوانه في آذار 1932 هي رسالة صحيحة
-بعكس ما أدعاه البعض من عدم وجودها أساساً-
بل وزودني بنسخة مخطوطة يدوياً وهي من مقتنيات المرحوم عبد العزيز القصاب الذي كان من القلة الذين خصهم الملك برسالته.هذا فضلا عن النسخة التي نشرها المؤرخ الكبير عبد الرزاق الحسني في موسوعته عن تاريخ الوزارات العراقية.
هذه الرسالة مثلت خلاصة ما استنتجه الملك بعد اكثر من عقد من الزمن على حكمه للعراق ومنهاجه الذي سيعمل عليه،رغم ان القدر لم يمهله طويلا بعد ذلك لتنفيذه.وقد تضمنت تحليلاً عميقاً أراه غاية في الصواب للمجتمع العراقي آنذاك وكيفية التعامل معه سياسياً وأقتصادياً. لكنني هنا سأكتفي بالاشارة الى طريقة معالجته للمصيبة الطائفية التي أبتُلي بها العراقيون،وما زالوا،علّ بعض قومي يفقهون!
بعد أن يبدأ رسالته بالاقرارالشجاع أن العراق من جملة البلدان”التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية،ذلك هو الوحدة الفكرية والملية-يقصد الاجتماعية-والدينية”وانه منقسم ومبعثر القوى وان قوة حكومته أضعف من ان تمكنه من فرض رأيها بالقوة وأن أغفال أي رأي لأي مجموعة أجتماعية خطيئة لا تغتفر،نراه يقر أيضاً بوجود مشكلة طائفية في العراق.
فيقول بصراحة لا نعهدها عند الكثيرين من(قادة)اليوم أن العراق “مملكة تحكمها حكومة عربية سنية،مؤسسة على انقاض الحكم العثماني،وهذه الحكومة تحكم قسما كرديا…بينه اشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي منها(يقصد الثورة عليها) بدعوى انها ليست من عنصرهم(يقصد الكوردي).
وأكثرية شيعية…منتسبة عنصريا(يقصد قوميا) الى نفس الحكومة الا ان الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جراء الحكم التركي،الذي لم يمكنهم من الاشتراك في في الحكم ،وعدم التمرن عليه،والذي فتح خندقا عميقاً بين الشعب العراقي المنقسم الى هذين المذهبين،كل ذلك جعل مع الاسف هذه الاكثرية،أو الاشخاص الذين لهم مطامع ،خاصة الدينيون منهم،وطلاب الوظائف بدون استحقاق،والذين لم يستفيدوا مادياً من الحكم الجديد يظهرون بأنهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعة،ويشوقون هذه الاكثرية للتخلي عن الحكم الذي يقولون بأنه سيء بحت،ولا ننكر ما لهؤلاء من التأثير على على الرأي البسيط الجاهل”.وبتحليل مبسط لهذا النص الذي يثبت فيه الملك انه رجل دولة وأمة،وليس طائفة أو ملة -رغم كل خلفيته المعروفة-يتضح لدينا ان الرجل قد نجح في أهم مرحلة لعلاج الطائفية وهي الاقرار وعدم الانكار.فهاهو يقر أنه يرأس(حكومة عربية سنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني).
وهو يعترف للكورد بعراقيتهم وللشيعة بأكثريتهم!لا بل أنه يعترف بالأضطهاد الذي أصابهم من جراء الحكم التركي الذي حرمهم من حقوقهم الأساسية في الحكم. وللتدليل على صحة رأيه ينقل لأعوانه في ذات الرسالة “ما سمعته ألوف المرات وسمعه غيري من الذين يلقون في أذهان أولئك المساكين البسطاء(يقصد عامة الشيعة)من الاقوال التي تهيجهم وتثير ضغائنهم،أن الضرائب على الشيعي والموت على الشيعي والمناصب للسني.ما الذي للشيعي؟حتى أيامه الدينية لا أعتبار لها”! ولحل هذه المشكلة حث الملك خاصته ووزراءه على اتباع سياسة تعمل على توحيد العراقيين من خلال الاهتمام بالشعائر الدينية كلها،ودمج الجميع في بوتقة المواطنة من خلال مؤسسات الدولة وخدماتها وبخاصة التعليم الذي يجب ان يقدم للجميع بحيث يثق كل سكان العراق”انهم سيشتركون فعلا في خدمات الدولة..بخيرها وشرها مع أهل بغداد والموصل بصورة متساوية وتزول صفة الحكومة السنية أو العربية كما يقول أصحاب الأغراض من أكراد وشيعة”.هذا التشخيص الشجاع للمشكلة هو الذي قاده لاستنتاج ان المستثمرين من السياسيين وأصحاب المصالح لدى الشيعة والكورد وحتى المسيحيين وسواهم من الطوائف تمكنوا من أستثمار هذا الشعور بالحرمان وعدم العدالة والمساواة لاثارة النعرات الطائفية وتفتيت وحدة الامة ومنع قيام دولة عراقية أساسها المواطنة لا الطائفة.ولعمري،أن هذه المشكلة على ما يبدو ما زالت قائمة ليومنا هذا وأن أختلف شكلها وتاريخها.
أن الطائفيون(من كل الملل والنحل وبلا استثناء)ما زالوا ينفخون روح الطائفة ويقدمونها على روح المواطنة. ولعل أزمة الانغلاق السياسي التي يعاني منها العراق حالياً أكبر دليل على أستمرار أصحاب المصالح بالعزف على وتر الطائفية من خلال نغمة(البيوت الطائفية)النشاز والتي قد تبني ملة لكنها لا تبني أمة.حينما يقدم الجميع مصلحة العراق على مصلحة المذهب والطائفة والملة نكون قد وضعنا ارجلنا على أول طريق التقدم.