كيف تغيرت قواعد اللعبة؟ (2)
كيف تغيرت قواعد اللعبة؟ (2) – منقذ داغر
فشلت أميركا أذاً في أدراك مدى القلق الأمني الذي تشعر به دول الخليج العربي نتيجة العوامل التي ذُكرت سابقاً ، كما أنها فشلت في أدراك مدى قدرة تلك الدول على المناورة والأبتعاد عن الخضوع التام لمتطلبات الأستراتيجية والمصالح الأميركية .
ترافق هذا الفشل مع جملة متغيرات محلية ودولية مهمة ساعدت دول الخليج على الأقتراب أكثر من موقف الحياد الأستراتيجي. فدول الخليج تدرك أن الصين أو سواها من القوى العالمية غير قادرة،للآن على الأقل،أن تنافس أميركا في مجال توفير مظلة الأمن لها. لذلك يجب أن لا يُفهم الموقف الخليجي على أنه طلاق بائن بقدر ما هو كسب لمزيد من المرونة الأستراتيجية من جهة وأرسال رسالة واضحة وقوية لأميركا من جهة أخرى.
أن أهم المتغيرات المحلية التي حصلت خلال السنوات القليلة الماضية هي تواجد قيادات خليجية شابة تعرف الغرب جيداً وتمتاز بعقلية أقل تحفظاً وأكثر أستعداداً للمناورة والبراغماتية،ولها رؤية واضحة وطموحة(جداً) بخصوص مستقبلها. لقد تجلى هذا التغير المهم في تركيبة منظومة الحكم الخليجية في أكثر من مناسبة مثل ما سمي بالأتفاق الأبراهيمي،ورفض الأمارات للتصويت ضد روسيا في الأمم المتحدة،ورفض السعودية لتخفيض أسعار النفط. مثل هذه المواقف كان لا يمكن حتى مجرد التفكير بها قبل عقدين من الزمن. وعلى الرغم من التنسيق المستمر بين دول الخليج العربي في سياستها ومواقفها الخارجية الا ان المنظومة الجماعية فيها باتت تعتمد بشكل أكبر على المتطلبات العملية والمصالح الذاتية والرؤيةالمستقبلية لدولها منفردة وليس مجتمعة.لقد قل دور منظومة التعاون الخليجي ومؤسساتها بشدة خلال العقد الماضي وصار من الصعب أملاء سياسة خارجية موحدة على دول الخليج العربي. كما قل تأثير مؤسسات الحكم وصنع القرار التقليدية المنافسة لحكام الخليج. من جهة أخرى فقد وسعت هذه القيادات من شبكة علاقاتها ومجساتها داخل عواصم القرار المهمة كواشنطن ولندن والأتحاد الأوربي بشكل لا يزيد فقط من تأثيرها هناك بل يوفر لها معلومات مهمة من داخل تلك العواصم عما يمكن أن تجابهه من قرارات. فالسعودية مثلاً تعرف أن هناك تياراً قوياً داخل واشنطن يدفع بأتجاه تأزيم العلاقات معـــــها وهو الذي جعل الأدارة الأميركية تعلن عنأجراء مراجعة شاملة للــــــعلاقات السعودية الأميركية في شهر أوكتوبر الماضي في أعقاب رفض السعودية الطلب الأمريكي بتخفيض أسعار النفط.عصب الاقتصادأما المتغير الآخر المهم فهو النفط الذي يمثل عصب الأقتصاد الخليجي والعالمي.
أن دول الخليج العربي تدرك أن أمامها فرصة زمنية محدودة للأستفادة من أمكاناتها النفطية لذا فقد مضت بعيداً في تنويع مصادر دخلها من جهة وأستثمار نفطها من جهة أخرى. أن مشاريع نيوم السعودية،والفضاء والموانىء الأماراتية،والتنمية والتجارة الخارجية القطرية هي شواهد مهمة على أدراك تلك الدول لأهمية الأسراع بأيجاد موارد بديلة.
هذا يعني الحاجة الى تنويع الشراكات الأقتصادية العالمية.من جهة أخرى فأن تقلص أهمية النفط الخليجي لأمريكا بسبب شبه الأكتفاء الذاتي الذي باتت تتمتع به بعد تطويرها لحقول النفط الحجري فضلاً عن أتجاهها المتزايد نحو مصادر الطاقة البديلة يجعل دول الخليج العربي تعيد النظر في شراكتها الأقتصادية مع أميركا. يكفي هنا الأشارة الى أن واردات النفط الأميركية من السعودية أنخفضت بمقدار الثلثين خلال العقد الماضي لتصبح حوالي نصف مليون برميل يومياً الآن مقابل حوالي مليوني برميل أستوردتها الصين في الشهر الماضي. وفي الوقت الذي بلغ فيه الميزان التجاري للسعودية مع أمريكا حوالي 39 مليار دولار وبفائض مقداره 9 مليار لصالح أمريكا،فأن الميزان التجاري للسعودية مع الصين بلغ حوالي ضعفي التجارة مع أمريكا وبفائض مقداره 3.4 مليار دولار لصالح السعودية.
كما أن الدؤشرات الأقتصادية تشير الى أرتفاع ملحوظ متوقع في حجم التبادل التجاري الصيني الخليجي(وبالذات السعودي) في أعقاب الخروج التدريجي للصين من تبعات الجائحة ومحاولتها الأسراع لتعويض ما فاتها من جهة والخروج من مشاكلها الأقتصادية من جهة أخرى. مع كل ما سبق، فأن الدافع الأهم لهذه الشراكة الأستــــراتيجـــية بين الســـعودية (ومن ورائها معــــــــــظم دول الخليج) والـــــصين هو الــــهاجس الأيراني.مقال سابقأذ يبدو واضحاً من خلال ما أستعرضته في المقال السابق أن دول الخليج تنظر الى أيران بأنها التهديد الأمني الرئيس لها. لقد أثبتت أميركا،الشريك الأستراتيجي الأمني الوحيد لدول الخليج،أنها غير قادرة على الحد من التوسع الأيراني في المنطقة. كما لم تستطع تلك الدول الحد من نفوذ أيران،عبر الحوثيين،على حدودها الجنوبية بخاصة وأن الحرب هناك لم تؤدي للنتيجة الأستراتيجية التي كانوا يأملونها،بل بالعكس زادت من المخاطر الأمنية على دول الخليج.حتى العقوبات الأميركية وسياسة الضغط الأقصى والأنسحاب من الأتفاقية النووية لم تؤدي للنتائج التي كانوا يرجونها. لذا يأمل السعوديون والأماراتيون تحديداً أن تسهم هذه الشراكة الأستراتيجية مع الصين في تسليط مزيد من الضغوط(بخاصة الأقتصادية) على أيران التي تعد الصين رئتها الأقتصادية الأهم.
يبدو أن أيران قد ألتقطت هذه الأشارة وأن عودة سريعة للمباحثات الأيرانية السعودية باتت وشيكة ومتوقعة. بأختصار فأن السعودية على ما يبدو تنوي أكمال طوق الضغط على الأقتصاد الأيراني وصولاً لصفقة كبرى مع أيران تلبي كل الهواجس الأمنية الخليجية. لكن يبقى السؤال المهم عن طبيعة الشراكة الصينية الخليجية المتوقعة ومدى أنعكاساتها على العراق وهو ما سنستعرضه لاحقاً.