كلكامش الخلق والفناء—- دراسة بنيوية لمعطياتها المنهجية ؟!
عبد الجبار نوري
توطئة / أن أيقونة حب العراق ذاكرة أمّة وضمير وطن ، من حقي أن أحبك يا عراق حد البكاء حين يجعل السماء تمطر، وحد النخاع حين تحتدم عليك النوائب ، وحد البلازما حين تتزاحم عليك الرماح ، أجاد الجواهري في هيام ولائه للوطن الحبيب { لساني قلبهُ ودمي فراتهُ ، وكياني منهُ أشطارُ }.
النص/ تعتبر ملحمة كلكامش أقدم ملحمة في تأريخ الشرق القديم وعلى المستوى العالمي كله ، تمّ أنشاؤها في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد ، أي مضى عليها حتى الآن أربعة آلاف عام ، بذلك تُعدْ أقدم من ملحمتي الألياذة والأوديسا الأغريقية وملحمة الروح- فيدا الهندية ، وملحمة الأفستا ( الأبستاق ) الفارسية ، بل أنها تكاد تسبق ملحمة أيزيس وأوزوريس المصرية .
وأكتُشفتْ لأول مرّة عام 1853 وترجمها إلى الأنكليزية جورج سمث عام 1872 وتُرجمتْ بعدهُ لعدة لغات فرنسية ألمانية أيطالية أسبانية عربية تركية وفارسية ، وملحمة كلكامش نص شعري طويل مكتوب باللغة السومرية والأكدية والبابلية وموزّعْ على أثني عشر لوحاً فخارياً ، فهي من نوع الشعر الملحمي حيث ترتبط تلك الملحمة الشعرية بقصص وحوادث متشابكة أبطالها كثيرون يختلفون في مواقفهم وأفكارهم ونوازع الخير والشر لديهم ، وتتضمن الكثير من الخرافات والأساطير الفنتازية والحكايات الشعبية ، وفي دراسة للدكتور الأكاديمي “علي القاسمي” في كتابه الموسوم ( عودة جلجامش ) يرى : أن الملحمة المذكورة تصدت لثلاث قضايا ( الحياة والحب والموت ) ولنبدأ من النهاية ليست أقل شأناً من البداية /أنتهى ، وآخرين يصنفون موضوع الملحمة ضمن فضاءات ( الموت والحياة والفناء والخلود ) ومغزاها أن الأنسان خالدٌ بأعماله المجيدة وخدماته الجليلة للأنسنة والسلام في خلق حياة دنيوية جميلة بعيدة عن الشرور والآلام والمعاناة .
ومنذُ أن صارت الملحمة جزءاً من برامج العلوم الكلاسيكية للأدب العالمي في الأربعينيات أخذ تأثيرها يظهر واضحاً في الأبحاث الكلاسيكية التي أعتمدت المنهج المقارن في البحث عن الجذور التأريخية الأسطورية لملاحم هوميروس ، وهناك من ينظر إلى الملحمة السومرية على أنها تنطوي على الأسس الدينية والفلسفية التي أعتمدها ( نيتشه )في تفسيره نشوء التراجيديا اليونانية ، وتحدثتْ ملحمة كلكامش عن ( الطوفان ) وكان يقصد طوفان الميزيوبوتينيا نهري دجلة والفرات وليس بطوفان نوح العظيم الذي يعتبروه اليهود صدق توراتهم ولأن طوفان جلجامش حصل قبل طوفان التوراة .
وقد وجدتُ بعضاً من التقاربات والمتشابهات من نظائر بين سفر التكوين وملحمة كلكامش مثل :
-Ninti آلهة الحب السومرية تمّ خلقها من ضلع (أنكي) لتشفيه بعد أن كان قد أكل الزهور الممنوعة والتي ظهرت كأساس لقصة آدم وحواء في سفر التكوين .
– وأن كلاً من سفر التكوين وملحمة كلكامش أستمدت محتوياتها من تقليد شائع عن الطوفان الذي حدث فعلا في بلاد ما بين النهرين .
– وحسب قناعتي أن هناك توارد خواطر أو ما أسميه نظائر وتقارب بين ما ورد في التلمود المقدس العبري وأشعارات هامشية في الديانات السماوية الأخرى خاصة في توارد أفكار الطوفان بالخصوص طوفان نوح وجنات عدن ، حواء وآدم ، والثعبان سارق نبتة الخلود .
– أن فكرة خلود الآلهة التي وردت في ملحمة كلكامش والتي أندفع بطلها بهوس وجنون وركوب المغامرات برحلة محفوفة بالمخاطرلأكتشاف سر الحياة والموت أنتهى للآستسلام أن الخلود للآلهة فقط وهو قرارسماوي : أن الآلهة عند خلقها البشر جعلت الموت من نصيبهم وأستأثرت بالخلود .
دراسة تحليلية للمعطيات المنهجية للتناظرات والمقاربات الفلسفية والفكرية مع الأدب الأغريقي !!!
– أن ملحمة كلكامش تعاملت مع حواس من عالمنا الدنيوي كالأنسان والطبيعة والحب والمغامرة والصداقة والحرب ، وتمكنت القصائد الشعرية للملحمة من مزجها ببراعة دقيقة متناهية لتكون خلفية موضوع الملحمة الرئيسية التي هي ( حقيقة الموت المطلق ) وأن الكفاح الشديد المضني لبطل الملحمة في البحث عن سر الخلود والذي أنتهى بالفشل بيد أن قوّة الأرادة والتصميم والأقتحامية تأججت في روحه وأعماقه أثر صدمة سياط الفشل والجلد الذاتي في مواجهة سور اوروك العظيم حينها أكتشف أن سر الخلود يكمن في العمل العظيم والذكر الحسن في خدمة الشعب ، فهي نقلة نوعية في تأريخ البشرية عندما تكون فكرة ( الأنسنة ) فلسفتها في محور تلك الحقيقة المطلقة في فهم قيمة الأنسان ( كأثمن راسمال ).
فعند تحديثها حسب مفهوم الحداثوية المعصرنة الحالية نجد في حياتنا اليومية كثيرون من القادة والرموز أضاؤوا بشموعهم زوايا العتمة وتقديس عشق الحياة والسلام العالمي أمثال : أديسون مخترع الكهرباء ، وأنشتاين صاحب النسبية ، ونلسون مانديلا صاحب الثورة البيضاء ، والقس لوثر صاحب التصحيحية الدينية ، ووليم مورتون طبيب أسنان مكتشف البنج عام 1846 ، والزعيم عبدالكريم قاسم صاحب ثورة حماية الوطن والفقراء .
– وفي البحث في المقاربات السياحية التأريخية بين الفرد السومري كلكامش والفرد الحالي ذلك العراقي المستلب والمهزوم أن كلاً منهما يبحث عن ضالته ( الفردوس المفقود ) لينال فيها الراحة الأبدية ، فالأول تكمن أرهاصاته ومعاناته الروحية والفكرية والجسدية التي سببتها لهُ تلك الأفعى الملعونة الطفيلية سارقة أحلامه في الخلود ، والثاني عراقي ما بعد الأحتلال البغيض فهو كالبوصلة التي فقدت نقطة الجذب فأخذتْ تدور بشكلٍ منفلت ْ وعشوائية قاتلة يعاني من شتى أمراضٍ سايكولوجية وسوسيولوجية أثر ضغوطات داخلية وخارجية فقد أقترب من أحلام كلكامش في البحث عن الفردوس المفقود أو الوطن البديل تحت خيمة الأغتراب والمنافي ، مع صراعات البحث عن الخلود وماهيات (ظاهرة الموت ) تتوضحْ الرؤيا عند الأول وضبابيتهُ عند الثاني المنهزم والمشتتْ فكراً وروحاً وجسداً ووجوداً وهو يبحث عن مظلة تؤويه حتى وأن كانت غابات الأرز المتوحشة وحتى وأن كانت الجسور والمقتربات زوارق موت مطاطية وصهاريج من العالم السفلي مقفلة ليحقق حلمه المزيّفْ في الخلاص وأدراك المخلّصْ ( فكانت تلك الرحلة السياحية التأريخية مقاربة بين الأثنين بيد أنها فرصة سعيدة عند الأول وتعيسة ومأساوية عند الثاني .
-أن الأسلوب الأدبي الرصين والفذ الذي حمل هموم الأنسان ومعاناته الأزلية من جراء الهيمنة الخارجية والمرتكزة على أساس أرادة الأنسان وقوته الأيجابية في الصمود والتحدي والمطاولة والأصرار والتصميم في أيقاع الهزيمة لحواجز الخوف والأنطلاق إلى .فضاءات الحداثة والعصرنة الحالية ، وظهر لنا في تفوّقْ كلكامش على حواجز اللآلهة الوثنية وتجاوزها في تحقيق الأنتصار على الذات والأنا البشرية وثُمّ ٌأقترابهُ إلى الخلود بمعناها الروحي والفلسفي بالعمل الصالح والذكرالحسن .
وأن الفكرة الأساسية لملحمة كلكامش تكمن في : ( أن الأنسان قادر على تطوير نفسه وتحقيق طبيعته ليحصل على السعادة الحقيقية وذلك عبر ألتزامه بالفضيلة والبحث عن المعرفة وليس السعي وراء المتعة ، فأذاً الفكرة فلسفية أخلاقية ، وتماثلتْ تلك الفكرة في أحتقار وأزدراء كاتب النص الشعري في الألياذة لباريس بقيامه بأختطاف هيلين زوجة الملك (مينالاوس ) ملك أسبارطه وهي الخطيئة التي تعتبر نقطة نظام أخلاقية ضمن المعايير الأنسانية السوية ، فحدثت الحرب الطروادية لتصحيح هذا المسار الخاطيء .
– وضوح مقاربات فكرية وفلسفية ترقى حد التشابه في التناظرات المنهجية بين ملحمة كلكامش وملاحم هوميروس في تقييم مفردات الحياة والحب والوجود والموت والخلود في المواقف الترجيدية والكلاسيكية التالية :
1-وقوف الآلهة ضد كلكامش وصديقهُ أنكيدو بأرسالها الثورالسماوي الوحشي لمعاقبتهما عن جريمة قتلهم لخمبابا حارس غابة الأرز، وكذا في الألياذة تقضي الآلهتين (هيرا وأثينا ) على صديق البطل .
2- وتناظر وتشابه آخر بين كلكامش وأخيل اليوناني بأن كليهما هجيني التكوين في أن كلاً من البطلين ثلثاهُ آلهة والثلث الآخر أنسان 3- تشابه الملحمتين من حيث النهاية في قبول كلكامش بنتيجة الفشل في البحث عن سر الخلود ، وقبول أخيل اليوناني بغريمه
((برايم) بقبول والأذعان لنتيجة الصراع الرهيب ، وشخصية كلكامش يقابلها هيرقل والأسكندر وذي القرنين وأوديسيوس وكذلك شمشون .
4- تناظر في مواقف الآلهة السلبي من كلكامش وأنكيدو في قتالهم مع الوحش خمبابا وثور السماء ، وكذا في نهاية الملحمة الثانية لهوميروس ( الأوديسا ) كيف جرى قتال هيرقل وبيرسوس ضد الفيرغونة ، وبالنهاية يكون تمثيل الشرف والشجاعة والأيمان بالأمر الواقع هي غاية وكينونة وصيرورة دوافع الأنسان الفلسفية تلك هي القوّة الأيجابية الداحضة لحجج المهزومين .
5- التناظر بين الأسلوب الشعري في الملحمتين في أستعمال الصفات المتعددة للأحداث عندما يموت أنكيدو يرثيه كلكامش قائلاً : مثل أسد – مثل لبوؤة حُرمتْ شبلها ، ويقابل هذا المشهد في الألياذة في أخيل حين يعدُ مأتماً لصديقه ، وهذا التناظر في الأستعارتين بأنهُ حقاً شيءٌ مدهش للغاية ، ويلاحظ في كلا الملحمتين ذلك العشق والحب للحياة الدنيوية بمحتوياتها وفضاءاتها الأنسانية الحضارية المتمدنة .
6- وثمة تشابه وتناظر آخر أكثر أذهالاً وتعجباً في مشاهد رومانسية أنسانية حين يكون البطل أخيل البطل الوحيد في الألياذة الذي لا يمكن تصورهُ بدون أمه وصديقه ، وكذا في العلاقة الحميمة لكلكامش مع صديقه وأمه ، وأن كلا الملحمتين الشرقية والأغريقية تناولت في نص شعري طويل تلك الحروب الطاحنة بين طرواده وأثينا ، وصراعات كلكامش وصديقه الحميم ضد عنف الطبيعة وقوة الوحوش الضارية أشتركت فيهما الآلهة المتخيلة طبقاً لأساطيرسومر وأكد واليونان وقصصهم القديمة .
7- أن كلا الملحمتين الشرقية والأغريقية مكتوبتين بنصٍ ( شعري ) مطول ، متقن في جمالية السرد الشعري والذي أعتبرهُ المؤرخون ( الوجه الجميل من الحرب ) مما أثارت أسئلة عن الحياة والموت والفضيلة والرذيلة ، من كلام أتو- نابشتم لجلجامش يخبرهُ فيهِ : أن كل ما يعملهُ الأنسان زائل لكنهُ يخلد بأعماله الجليلة ، وكذا في الألياذة حين وصفت عمل باريس في خطف هيلين بالمستهجن والسبب في الحرب الطروادية الأغريقية .
الهوامش ومصادر البحث
*عودة جلجامش /الدكتور علي القاسمي
*كلكامش – الانسان والخلود – عبدالحكيم الذنون – بيروت 1996
* موسوعة حضارات العالم – احمد محمد عوف
* الألياذة – هوميروس – ميخائيل صوايا
* ملحمة كلكامش- طه باقر – 2009 *