يقول الشاعر والعالم الإنكليزي جون ميلتون: يبدو الثأر في البداية حلو المذاق لكن أثره مردود فيما بعد.
بداية حزينة لمقال حزين يتكلم ويسأل ويتساءل لماذا هذا الانتقام الأسود من الدولة التي طالما صدعت رؤوسنا بالديموقراطية وحقوق المواطنين. وبعد نحو 14 عاماً على مجيء هذه الطبقة السياسية بمختلف اتجاهاتها، وبعد أن أضحت السلطة بيد أحزاب الإسلام السياسي، أصدرت الهيئة الوطنية العليا للمساءلة والعدالة في العراق،(وهنا أضع بليون خط أحمر تحت مفردة الوطنية) قرارها القاضي بمصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لرجالات العراق، (ولا أقول النظام السابق) وشمل 4354 اسماً. وبغض النظر عن كونهم ضباطاً أو كوادر حزبية أو غير ذلك، فهم كانوا من منتسبي مؤسسات الدولة العراقية. وأرفض القول إن هذه الكوكبة من رجال العراق، هي من النظام السابق، ليس تنصلاً أو إجحافاً بالنظام السابق، بل لأنهم أبناء هذا البلد، سواء كانوا في السابق أم النظام الحالي أم في النظام اللاحق الذي سيأتي بعد هذه الطبقة السياسية. لكن السؤال: ما ذنب هؤلاء الذين حُجزت أموالهم؟ وهل هذا القرار من قرارات السلطة أم تم طبخه في أروقة المخابرات الإيرانية وبأوامر الولي الفقيه؟
لا شك في أن هذا القرار وهذه القوائم والأسماء التي عرضت على الشعب، قد تم تدقيقها وتفصيلها في طهران وأعطي الضوء الأخضر للسلطة العراقية لإصدارها. فما هو الذنب الذي اقترفوه، لقد حوكم هؤلاء لأنهم سحقوا الجيش الإيراني في حرب ضروس دامت ثماني سنوات. وفي الحقيقة أن كل ما فعلته هذه الطبقة السياسية في العراق بعد عام 2003 أنها أسست لبناء سلطة وليس لبناء دولة. وإذا سلّمنا جدلاً بأنهم ينتقمون من النظام السابق، فالنجاح في بناء دولة محترمة ومواطنة صحيحة هو أكبر انتقام. المهزلة التي يجب أن نقف عندها هي أن هذه القوائم شملت أسماء بعض الذين حاربوا مع الدولة الحالية ضد تنظيم «داعش» الإرهابي واستشهدوا دفاعاً عن أرض العراق، وعلى سبيل المثل لا الحصر الشهيد اللواء الركن احمد صداك البطاح الذي استشهد في محافظة الرمادي عندما كان يقاتل في صفوف الشرطة المحلية. والكارثة الأخرى هناك أسماء ظهرت في هذه القوائم، هم أصلاً حوكموا من جانب النظام السابق. وهناك من تمت تبرئتهم من جميع التهم الموجهة لهم وأطلق سراحهم من محاكم السلطة الحالية!
القضية الأخرى، لماذا هذا الانتقام البشع، ضد رجال خدموا العراق وبكل إخلاص، وعند العودة إلى التاريخ ودرس السياسات من أيام الملكية وصولاً إلى نظام البعث، نجد حقيقة مهمة هي ان أياً من هذه الحكومات من أربعينات القرن الماضي إلى 2003 لم تتخذ مثل هذه الإجراءات العقابية والتعسفية ضد أي عراقي، سواء كان معارضاً أم خائناً أو حتى جاسوساً. وإذا كان ساسة العراق اليوم يتحدثون متهمين نظام البعث بأنه قمعي وديكتاتوري، لكن حزب البعث، ورغم أنه حزب علماني وليس إسلامياً، حتى ولو اتخذ إجراءات عقابية، فإنها لا تصل إلى حجز ومصادرة دار السكن الوحيد للعائلة. وبعد هذه القوائم البائسة لن يبقى إلا معاقبة جميع الوطنيين.
يجب على أصحاب السلطة ان ينتقموا من أفعالهم التي أوصلت العراق الى ما وصل اليه من فقر وتخلف ومجاعة وفساد مالي واداري، وأن يواجهوا فشل الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ويعملوا على رفع روح المواطنة بين أبناء الشعب، وعلى عودة ملايين النازحين إلى بيوتهم، وإطلاق سراح آلاف المعتقلين، ومحاربة الفساد بيد من حديد، وإرساء دولة القانون والعدالة، فهذا هو الانتقام الصحيح للحق والعدل.