في ذكرى ميلاده.. نور الشريف “نجم القرن” صدقاً وإنتاجاً
تحتفل الأسرة الفنية اليوم بعيد ميلاد الفنان الكبير الراحل نور الشريف (28 أبريل/نيسان 1946)، الأستاذ في مدرسة التمثيل والأداء المذهل الصادق، صاحب الاختيارات الجريئة والمتنوعة في السينما والتلفزيون والمسرح.
وربما كان شهر رمضان مناسبة تذكرنا بأعمال نور الشريف الرائعة من نوعية “عمر بن عبدالعزيز”، و”هارون الرشيد” و”عائلة الحاج متولي”، و”العطار والسبع بنات”، و”لن أعيش في جلباب أبي” وغيرها من الروائع.
منذ إطلالته الأولى في شخصية كمال عبدالجواد في الجزء الثاني من ثلاثية نجيب محفوظ “قصر الشوق” عام 1967 يلفت النظر في شخصية كمال ذلك الطالب الجامعي الشاب الخجول والرومانسي المثالي الذي يشهد تحولات مجتمع يرتع في النذالة والازدواجية وتبدأ أفكاره في التحول تدريجيا.
شخصية مسكونة بالحوار الفلسفي وتشكك مستمر في الثوابت، كان وجه نور وتلقائية أدائه المعبر عن شخصية لم تتلوث بعد وتجنح للسذاجة والمثالية يكشف عن ميلاد نجم سوف يتسلل رويدا بعد ذلك في أكثر من 170 فيلما سينمائيا شكلت بالفعل محطات رئيسية في تاريخ السينما المصرية والعربية، نذكر منها أدواره في “بنت من البنات 1968، زوجة بلا رجل، نادية، بئر الحرمان 1969، المراية، السراب 1970، شباب في العاصفة، ثم تشرق الشمس، المتعة والعذاب، زوجتي والكلب 1971، كلمة شرف، والحاجز”.
ولا ننسى تجربته مع يوسف شاهين “حدوتة مصرية” و”المصير”، وأدواره في أفلام عاطف الطيب مثل “سواق الأتوبيس”، و”دماء على الأسفلت”، و”ناجي العلي”، و”البحث عن سيد مرزوق” لداود عبدالسيد، وأخيرا “عمارة يعقوبيان” لمروان حامد ، و”بتوقيت القاهرة” آخر أفلامه قبل وفاته.
في كل هذه الأفلام كانت مدرسة نور في الأداء التمثيلي تزداد نضجا ورسوخا وتباينا من الطالب الفقير ضحية مجتمع وقوى قاهرة كما في “الكرنك”، للثائر الطموح الذي يواجه كارثة عربية بحجم قضية وطن منكوب كما في “ناجي العلي” الذي واجه بسببه حربا طاحنة من محاولات المنع والإساءة لشخصه واجهها برباطة جأش كشفت بدورها عن جلد وتحمل ابن منطقة “السيدة زينب” العنيد.
ونور أيضا هو الفتى الساحر الجريء المعبر عن مرحلة الانفتاح في “زمن حاتم زهران”، وهو الثري والشريف والطاغية والنذل والصوفي والزنديق في أعمال متنوعة أخرى مثل رائعة ديستوفسكي “الإخوة كرمازوف” التي تحولت على يد حسن الإمام لـ”الإخوة الأعداء”.
في هذا الفيلم يقدم نور الشريف شخصية (إيفان) في الرواية الأصلية الذي دخل عالم الجنون والهذيان بسبب ماديته وواقعيته المفرطة وفقدان الإيمان وأهمية الأخلاق في المجتمع.
وتأمل نظرات نور الشريف الجامدة القاسية والموحية المتربصة والشاردة في نفس الوقت لتكشف عن مكنونات شخصية بحجم كل هذا التعقيد، لتعرف أنك أمام مدرسة عاتية في الأداء.
وتأمله في “سائق الأتوبيس”، ثم سائق التاكسي في رائعتي عاطف الطيب “سواق الأتوبيس وليلة ساخنة”، فالسائق هنا غير السائق هناك، وإن تشابهت الظروف والمواجهات الاجتماعية والإنسانية مع الفقر والبؤس والتغيرات الطبقية.
في الأول يسعى “حسن” لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قيم مجتمع وسط التحولات المادية في زمن الانفتاح وما بعد أكتوبر 73، فهو الشهم الشامخ الجريء في الحق، يبدو كما لو كان يحارب طواحين الهواء مرفوع الرأس حتى النهاية، وفي الثاني هو أيضا نفس الشهم الفقير مرفوع الرأس ولكن على نحو أكثر انكسارا وضعفا يلائم فارق التوقيت بين منتصف السبعينيات ومنتصف الثمانينيات الأكثر ضراوة وتحللا.
وفي فيلم “أهل القمة” مع المخرج علي بدرخان يكشف نور الشريف في شخصية “زعتر النوري”، لاحظ الاسم، سوءات الانفتاح الاقتصادي ضمن طائفة الأعمال السينمائية التي عبرت عن جملة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية في منتصف السبعينات، حيث يقف المستورون من أبناء الطبقة المتوسطة على حافة الهاوية بينما يتقدم اللصوص الكبار ويلحق بهم الصغار المشهد.
صراع جسده نور بمهارة ليس في هذا الفيلم وحده ولكن كرره في أفلام مثل “زمن حاتم زهران” الذي تصدى لإنتاجه بعدها بسنوات وأخرجه الراحل محمد النجار الذي اكتشفه نور الشريف وقدمه، مثلما كان مهموما بتقديم واكتشاف المواهب بالتوازي مع رحلته الإبداعية كممثل.
وحين نتابعه في فيلم مثل “العار” نرى مستوى آخر لشخصية “كمال” تاجر المخدرات المتصالح مع قناعاته والذي يواجه أشقاءه بحقيقة أبيهم قبل أن يسترسل في توريطهم معه في الصفقة الملعونة، فهو قاس وحنون في نفس الوقت، جريء ومتهافت لكنه أيضا معجون بالجشع والإيمان، وهي مجموعة من المتناقضات عبر عنها نور باقتدار.
كان نور الشريف تعبيرا فعليا عن حالة ثقافية فنية تعايش الشخصيات وتدرسها وتثبر أغوارها، وكان يمنح شخصياته المكتوبة على الورق روحا واقعية شديدة الصدق والخصوصية حين يتصدى لتمثيلها بعد أن يصادقها ويستوحي نماذجها من واقع تجاربه ومعارفه ولقاءاته في الحياة، ولذلك تنوعت أدواره ما بين هذا وذاك.
باختصار لم يكن نور الشريف الأول فقط على دفعته حين تخرج عام 1967 بتقدير امتياز، ولكنه ظل الأول لما يقرب من نصف قرن في الأداء من حيث كم الأعمال الجادة وأسلوب الأداء الخاص، وهو ما يجعله “نجم القرن” لو وضعنا في حساباتنا غزارة الإنتاج الجيد له دون انتقاص من قيمة النجوم الكبار الآخرين من جيله أو من الأجيال السابقة.
متابعة : الأولى نيوز