فلسطين وقمة “اللاءات الثلاث”
ابراهيم الزبيدي
بين 29 آب/اغسطس، و2 أيلول/ سبتمبر 1967، عُقد مؤتمر القمة العربية الرابع في الخرطوم ، في أعقاب نكسة حزيران واحتلال الجيش الإسرائيلي لكامل الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان وسيناء.وقد تميز المؤتمر بمسارعة جميع الملوك والرؤساء والأمراءإلى حضوره، باستثناء حافظ أسد الذي كان يصر على حرب تحرير شعبية جعلها فيما بعد جبهة الصمود والتصدي.
وقد سميت تلك القمة التاريخية بـ (بمؤتمراللاءات الثلاث)، “لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل”.
وفي البيان الختامي للمؤتمرنقرأ “وتدارس أصحاب الجلالة والفخامة الملوك والرؤساء وممثلوهم أبعاد العدوان الذي تعرضت له الدول العربية في الخامس من يونيو الماضي، وقرروا (أن إزالة آثار العدوان من الأراضي العربية هي مسؤولية جميع الدول العربية)“.
وأقر المؤتمرون وجوب اتخاذ الخطوات اللازمة لدعم الإعداد العسكري لمواجهة كافة احتمالات الموقف، كما أقروا سرعة (تصفية القواعد الأجنبية) في الدول العربية“.
كما التزمت الدول العربية القادرة ماليا بدفع المبالغ التالية لمصر والأردن، سنويا ومقدما، كل ثلاثة أشهر ابتداء من منتصف أكتوبر/تشرين الأول 1967 وحتى إزالة آثار العدوان:أ- السعودية: 50 مليون جنيه إسترليني.ب- الكويت: 55 مليون جنيه إسترليني.ج- ليبيا: 30 مليون جنيه إسترليني، وذلك “لإعادة بناء القوات المسلحة في مصر ودول المواجهة الأخرى لكي تتمكن من استعادة قدرتها مجددا على خوض (حرب)تحرير الأراضي العربية المحتلة من إسرائيل“.
وقبل ذلك المؤتمر المدوي بسنتين فقط كان الراحل الحبيب بو رقيبة يزور مدينة أريحا، وكانت فلسطينية يومها، فألقى في جماهيرها في 3 آذار/مارس 1965خطابا تاريخيا حثَّ فيه الفلسطينيين والعرب على التخلي عن مبدأ (كل شيء أو بلاش)، وقال إنها سياسة فاشلة لم ينل منها الشعب الفلسطيني غير الدم والدموع، ودعاهم إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الإسرائيليين، على أساس القرار الأممي بتقسيم فلسطين، وإقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة وعاصمتها القدس.
ومعروف ما تعرض له، يومها، من عواصف الشتم والتخوين والاتهام بالعمالة للامريالية وإسرائيل.
وفي حديث آخر باللغة الفرنسية أدلى به لمراسل تلفزيون فرنسي أكد أنه التقى بأغلب الحكام العرب، وتأكد من أنهم،جميعا، كانوا يُسرونه بأنهم متفقون معه في رؤيته، ولكنهم يكتمون قناعاتهم عن جماهيرهم خوفا من اتهامهم بالعمالة وخيانة الأمة وفلسطين.
واليوم، وبعد خمسة وخمسين عاما من الصمود والتصدي، حين ندقق في مسلسل الأحداث التي تلت مؤتمر (اللاءات الثلاث)، وخاصة ما سُفك من دم فلسطيني وعربي، وما أنفقناه على المؤتمرات والخطابات الحماسية الجهادية الثورية في الإذاعات والفضائيات، نكتشف أن الرئيس بورقيبة كان عقلانيا وواقعيا وحكيما ومخلصا للقضية حين نجد أن أقصى ما أصبح الفلسطينيون، ومعهم العرب، وربما غيرهم كثيرون في المنطقة والعالم، يسعون إليه، منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، قياداتٍ وأحزابا وجماهير، هو حلُالدولتين الذي يُفضي إلى إقامة دولة فلسطينية فيما تبقى من فلسطين، في الضفة الغربية وغزة، وعاصمتُها القدس (العربية)، جنبا إلى جنب مع القدس (اليهودية) الأخرى عاصمة إسرائيل، وأن السلطة الفلسطينية مستعدة، بعد ذلك، ليس للقبول بوجود إسرائيل فقط بل لاحترام حدودها،وعدم المساس بأمنها ومستوطنيها، وبمواثيق وضمانات دولية لا سبيل إلى التملص من أحكامها.
ولعل أسوأ ما أنجزه مؤتمر اللاءات الثلاث هو أنه جعل قضية فلسطين مصدر فرقة واحتراب بين الجماعات السياسية العربية والإسلامية الحكومية والحزبية والدينية والطائفية والقبلية، وجعل الأماني والأحلام والأغاني هي سلاحنا الأٌقوى في المواجهة مع إسرائيل.فقد أوقف ذلك المؤتمرعقولنا عن العمل، وكفّر من يتحدث عن الواقعية والاعتدال، وجعل القضية وسيلة لانتفاع وارتزاق لفصائل وأحزاب ومنظمات وأشخاص، وأخرج أحزابا ومنظماتٍ يقاتل بعضُها بعضها، وتحول عددٌ منها إلى بنادق معروضة للبيع والاستئجار لهذه الحكومة العربية أو الإسلامية أو الأجنبية أو تلك، باسم فلسطين، وبذريعة التحرير والصمود والتصدي.
ومنذ 1967 وحتى اليوم، ورغم كل ما مر بالمنطقة والعالم من تحولات وتحالفات نسفت موازين القوى القديمة وأحلت موازين جديدة، ما يزال سهلا على حكومات وأحزاب وجماعات خداع الجماهير، وتجنيد المتطوعين، وتعليمهم صناعة التفخيخ والتفجير عن بعد، والاغتيال بالكواتم، ونسف الوزارات والمدارس والأسواق الشعبية، وقتل الضباط والجنود في دول تخالفه في الرأي والعقيدة، باسم القدس، وباسم الله ورسوله وآله، ولكنه يخاف من إسرائيل، ويمنع الاقتراب من حدودها، أو المساس بأحد أبنائها.
والمحزن في الأمر أننا، بعد خمس وخمسين سنة من الضياع والفرقة والاختلاف والاقتتال، نعود اليوم لنطلب ما رفضاه بالأمس بشمم وإباء، ونرضى بما كان محرما، بل كان مجرد التفكير فيه جريمة قومية ودينية ووطنية لا تغتفر.
مناسبة هذا الكلام مقالٌ نشره الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العسكرية السعودية الأسبق، والسفير السابق، يوم الجمعة الماضي في صحيفة (الشرق الأوسط)أطلق فيه إعلاناً هو الأخطر من كل ما مرَّ من إعلانات ومشاريع وقرارات.
فهو يعلن موقف المملكة العربية السعودية النهائي والواضح من مسألة الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقة سلام معها، ويقول “إن المملكة العربية السعودية وضعت ثمنَ إتمام السلام بين إسرائيل والعرب هو قيام دولة فلسطينية ذات سيادة وعاصمتُها القدس، بناءً على مبادرة المرحوم الملك عبد الله بن عبد العزيز”.
ولا يمكن أن يكون إلا مخولا من أعلى سلطة سعودية بهذا الطرح الجريء والصريح الذي يضع القيادات الفلسطينية في الزاوية، ويضع معها كل المزايدين الآخرين المُصرين المقاومة والممانعة، وعلى مواصلة (الجهاد) حتى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وخاصة الخامنئيين والأردوغانيين وأحزابهما ومليشياتهما ومرتزقتهما من العراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين.
والأهم الذي ورد في مقال الأمير تركي الفيصل هو أنه لم يطلب ثمنا لتطبيع السعودية مع إسرائيل غير ما يريدهالفلسطينيون أنفسُهم، ويصرون عليه، ويجاهدون من أجله، لا أكثر ولا أقل.
ما ينبغي الاعتراف به دون مكابرة وبعيدا عن العواطف وأحلام اليقظة، هو أن واقع الصراع الدولي، في أيامنا الجديدة هذه، جعل العالم عالمين، عالم أمريكا ومعها أوربا وإسرائيل وحلفاؤها حول العالم، الأوربيون والكوريون الجنوبيون واليابانيون والخليجيون ومصر والأردن وإسرائيل، وعالم الصين ومعها روسيا وإيران وجماعة الإخوان المسلمين وما في حقولهم من أشواك وغربان وثعابين.
ولا مهرب لأية دولة أو حزب أو جماعة من أن يختار التلاحم أو التحالف أو الصداقة مع أحد العالميْن، بحكم الضرورة، وحسب المصلحة والاقتناع.
ولأن الدنيا تدور، وكذلك الأمزجة والمصالح، فليس عيبا أن يرأف القادة الفلسطينون بشعبهم، وينحنوا لرياح الواقع المُرّ الجديد، ويقبلوا بما يتمناه لهم كل شقيق وصديق مخلص وصادق وحبيب، ولكن حين يصدُق اليهودالإسرائيليون والأمريكيون، ويجنحون إلى السلم الحقيقي غير المغشوش، ويقلعون زرعهم من الضفة بالكامل، ويسلمون بقيام دولة آمنة ومستقلة ومسالمة اسمها فلسطين.