سواء اعتبرت الضربة العسكرية الأميركية البريطانية الفرنسية الأخيرة ضد أهداف في سورية نقلة نوعية في طبيعة الصراع العسكري على الأرض السورية كما يقول البعض، أم أنها مجرد بالون اختبار ربما تم بالتنسيق حتى مع روسيا لتفجيره بأقل الخسائر كما يفترض آخرون، فإن الموقف الرسمي العراقي يجب ان يتسم بالحذر، وهي مناسبة لاختبار تمكن العراقيين من تمييز صوتهم عن صوت غيرهم بعد سنوات من تداخل الأصوات.
طبيعة العملية العسكرية لا تكشف الكثير عن تداعياتها، والأزمة السورية كانت خرجت مبكراً عن كونها تنازع إرادات محلية وإقليمية، وفتحت لها صفحات من التناحر الدولي، وهذا لا يعني ان الموقف العراقي يجب ان يكون متفرجاً وصامتاً وغير مبال، لكنه يجب ايضاً ان لا يكون انعكاساً لمواقف الأطراف العراقية والإيرانية واللبنانية المسلحة التي تقاتل في سورية، والأكثر ان الموقف يجب ان لا يكون متضارباً ومتخبطاً على غرار تخبط المواقف بين وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء.
وزير الخارجية ابراهيم الجعفري، خرج كالعادة الى وسائل الإعلام بموقف ذي طابع شخصي وانفعالي، فقرر نيابة عن العراق ان بلاده لن تسمح بتكرار الحماقات الأميركية، وأن هذه سياسات “خرقاء”، في اليوم نفسه الذي أكد رئيس الحكومة حيدر العبادي عزمه النأي بالعراق عن تداعيات الأزمة الإقليمية، وإن العراق يدعو الى الحلول السلمية للأزمة والتركيز على محاربة تنظيم “داعش”.
في العراق قبل غيره نعرف تماماً تداعيات التدخل الخارجي وندرك فداحة الصواريخ الأميركية التي مازالت آثارها على أجسادنا، كما ان تاريخاً عميقاً يجمع الشعب العراقي مع الشعب السوري الذي استقبل خلال الحرب الأهلية قرابة ثلاثة ملايين نازح عراقي دفعة واحدة عاشوا في أزقة سورية ومدنها وتلقوا الرعاية والضيافة والتعاطف، ولا يليق بأهل العراق الا التضامن مع إشقائهم، وفتح أي باب يمكن من خلاله التوصل الى حلول دائمة وعادلة للأزمة.
من حق العراقيين التعبير عن عواطفهم وتقييماتهم وحتى انحيازاتهم لأطراف الأزمة، ومن حقهم أن يختلفوا في تعريف اسباب ما حدث وما يحدث، لكن ليس من حق وزير الخارجية ابراهيم الجعفري ان يفعل ذلك، ليس من حقه التحول من وزير الى شاعر لكتابة قصائد هجاء، وليس من حقه التعامل مع الحدث بروح العرافة الذي على العراقيين الاستماع الى تنظيراته.
كان على الجعفري كما اي وزير خارجية في العالم، ان ينسق مع رئيس حكومته لاختيار موقف مناسب، وانتقاء المصطلحات والكلمات التي سيقولها، وأن لا يتصرف كمالك حصري لجزيرة وزارة الخارجية العراقية، وأن يكتفي من إحراج العراقيين بمواقف وتقييمات شخصية وهو من اختار بنفسه ان يمثلهم في الخارج!.
نفهم جيداً أن الجعفري يصل نهاية فترة وزارته، وأن تياره السياسي يخوض انتخابات على الأبواب، وأن أمل إعادة تسنمه منصب وزير الخارجية يكاد يكون معدوماً، لكن ذلك لا يعني ان يتصرف على طريقة المثل العراقي “يامغرب خرّب”!، فثمة التزامات طويلة الأمد لأية دولة في العالم، وسياقات ولغة وأساليب للتعبير عن المواقف.
وفي هذا السياق تحديداً، بدا واضحاً ان تحديات كبيرة تواجه قدرة العبادي، على ضبط ايقاع علاقاته الخارجية، ليس بسبب تداخلات واجتهادات وزراء حكومته فقط، بل لأن طبيعة التطورات الإقليمية، وتصاعد لهجات التصعيد لا تدعم كثيراً إمكانية الاستمرار بمسك العصى من المنتصف بطريقة متوازنة.
ومع ان الموقف العراقي من سائر أزمات المنطقة، لم يخرج في اية مرحلة عن السياق العام للموقف الإيراني، فإن العبادي يجري اتهامه في نطاق الحملات الانتخابية المتفاقمة، كرجل أميركا في العراق، وهو الاتهام الذي يتحول الى مادة انتخابية دسمة، لكنه في وجه آخر يشكل ضغطاً متواصلاً على سياسة العبادي الهادئة في التعاطي مع العلاقات الخارجية خصوصاً بعد الانفتاح المثمر مع الدول العربية، والتطبيع المتواصل مع المملكة العربية السعودية.
لكن قدرة العراقيين على إنتاج صوت عراقي خالص لا صدى لأصوات الجيران، هي المادة الانتخابية الوحيدة الصالحة للتسويق خلال الانتخابات المقبلة، وهذا ما يجب ان يتبناه العبادي، ويدركه، كما يجب ان يتبناه الجعفري ايضاً ليصبح أكثر حساسية، وأقل انفعالاً في تصريحاته.