عمى القلب والعقل
عمى القلب والعقل – ياس خضير البياتي
هناك في الحياة خداعان؛ خداع بصري، يقوم على قوانين البصريات الرياضية والفيزيائية، وزوايا سقوط الضوء. وخداع عقلي، يمكن أن يؤدي إلى أن يرى المرء شيئًا ما غير متوافق مع الحقيقة، أو يشعر به أو يسمعه أو يتعرَّض له. وكما قيل: فإن العين لا ترى إلا ما يراه العقل، والعقل يرى ما لا تراه العين؛ وهي متضادات لتفسير عمل الماكينة البيولوجية في الإنسان.من الجانب الآخر، يُوجَد جدلٌ آخرُ مرتبطٌ بالعقل والعاطفة؛ النظر بعين واحدة (عين العقل)، أو ترك العين الأخرى، بمعنى جعل العقل هو الأصل والقلب هو الاستثناء؛ فهناك مَن يقول: (كُن حليفًا لعقلك دائمًا؛ فالقلب قائدٌ أهوج)؛ بينما يرى العلم: أن العقل والقلب هما مُتضادان مُتكاملان، فالعقل البشري مكوَّنٌ من نصفين كُروييْن: الأيمن، مسؤولٌ عن العواطف والحدْس والمشاعر. والأيسر، مسؤولٌ عن عمليات المنطق والتحليل والاستقراء.والحجة قائمة؛ بأن العالم تَشبَّع بالفلسفات والنظريات والسيليكون والذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الرقمية، وهو يحتاج إلى المزيد من العواطف والمشاعر لإيقاظ الضمير الميت في العقول؛ والحل هو: (أن يجعل العقل البشري بين ملَكات المنطق والخيال معًا)؛ كما يقول الشاعر والفيلسوف (صمويل تايلور كولردج).أن صلابة العقل وقوَّته تلطفُهما رقة القلب، وأن لين القلب يهذبه تدبير العَقل. وقد قيل: “ضَع قليلًا من قلبك على عقلك يلِنْ، وضع قليلًا من عقلك على قلبك يستقِمْ“? ولكن حذَارِ أن يتغلب أحدهما على الآخر بصيغتيْ (القمع أو الاستحواذ)؛ ذلك لأن أصعب المعارك التي نخوضها هي بين عقلنا الذي يعرف الحقيقة، وقلبنا الذي يرفض أن يتقبَّلها. ومع ذلك فإن أصعب شعور هو أن يضيع منك قلبك، وتخرج روحك ولا تعود أبدًا. والأعقد ، عندما تكون هناك معركةٌ مع النفس، نخسر فيها كل شيء!إن الرؤية التي تقول: (إن العقل هو المحرك الأساسي لسلوك الإنسان في قراراته) هي بلا شك رؤية خاطئة؛ لأن العلم الحديث اكتشف أن القلب هو الذي يقود العقل؛ إذ إنَّ تغيّر معدل ضربات القلب لدى الإنسان يؤثِّر على كل نشاطاته وتفكيره وحكمته وعقلانيته.كما اكتشف العلماء عند زراعة القلب أن نبضه ووظيفته مستقلة عن عمل الدماغ؛ بل إن القلب هو الذي يوجِّه الدماغ بالرسائل من أجل الفهم والإدراك. وهذا يعني أن خلايا القلب هي مستودعٌ للمعلومات والذكريات، وهذا ما جعلهم يتحدثون عن مصطلح (ذاكرة القلب).رباط الكلام، إن العالم الآن يعيش واقعًا معوجًّا مشوَّهًا بالماديات، حيث الفجائع الإنسانية عمَّت كوكب الأرض بالحروب والكوارث والصراعات التي تأكل ركائز الحياة وجمالها، وتستنفد قدرات الإنسان وطاقاته، وتُقلِّل من سعادته، وتُقلِّص أحلامه، وتُصلِّب شرايين قلبه، وتُصيبه بالاكتئاب والاضطرابات النفسية والقلق الدائم؛ فتكثر أوجاعه في زمن وسواس الماديات الذي يرسخ المقولة والقاعدة الشعبية البليدة (معك فلس … تسوى فلس)؛ فاتخذَها عامة الناس حكمة حياتية لخريطة العيش، والظفر بحلم المليون!صحيح أن التكنولوجيا وفَّرت الرفاهية للإنسان؛ لكنها لم توفِّر معها السعادة بشكلٍ دائم؛ بل زادت من غربة الإنسان، وجعلته مع نفسه غير متصالح وغير متناغم. فأضعفت القيم الأخلاقية، ودمرت الحس الإنساني لديه، وصار ضميره ميتًا لا يعمل إلا بخوارزميات الأرقام الجامدة، وكأن الحياة نهَمٌ مادي لإشباع الذات، وهلوسة جنونية لاستغلال الآخر بقلب ميت، فاقد للرأفة والإحسان.أقول هذا الكلام، بعد تراجُعِ ثقافة العطاء، والتطوُّع لعمل الخير، وانحسار التبرُّع بالمال للفقراء في أوطاننا، حيث انعدام أعمال الخير فيها، إلا ما ندر، قياسًا بالدول “الكافرة”؛ أصبح الثري “الكافر” الآن يتفوق بمسارعته إلى أعمال الخير على المسلم الثري؛ فيسخو بتقديم ماله للفقراء والمحتاجين، ويكفي أن “بيل غيتس” مؤسس شركة ” مايكروسوفت على سبيل المثال لا الحصر، قد تبرع خلال حياته بمبلغ ثلاثين مليار دولار للمشروعات الخيرية. وهناك الألاف من “الكافرين” يزرعون الخير في مجتمعاتهم، ولديهم من العطاء والسخاء ولين القلوب ما تملأ بطون الحياة والكتب بقصص المآثر الإنسانية الراقية .في أوطاننا يزداد بخل الأثرياء، ويزداد نهمهم للمال الحرام كلما ازدادوا ثروة، ولم نجد معلماً واحداً قد شيده ثريي من أثرياها، إلا فيما قل وندر، مع أن عدد الأثرياء العرب الذين تبلغ ثروتهم أكثر من ثمانية بليون دولار يشكلون نسبة 8 بالمئة من أثرياء العالم، وقس على ذلك عدد أصحاب مئات الملايين وعشراتها.في أوطاننا المسلمة تسمع طنين فضائح قرون سرقة المليارات، ورائحة الفساد العفنة، وتجار أثرياء بطش الفقراء، ولصوص السياسة يسرقون رزق العباد باسم الدين والمذهب والقبيلة، ولا ترى فيهم خيراً إلا في جمال “كروشهم” المتدلية، وقصص فضائحهم في ملاهي الرقص والعري وصالات القمار، ونهم التسابق على الشقراوات ” الكافرات”.مع الأسف، لم يترك لنا أثرياء أمتنا شيئاً نَذكرهم فيه، ولا أثرا طيباً، وذكرى حَسَنَة، ولا معروف جميل يُقتدى به، ويثنى عليه، إلا مأثرة البخل والجشع والأنانية، والجواهري يلخص استغلال الثري بأروع صورة في قوله: وقد عصر الدموع من اليتامى-فقاقيعاً تفر من البنان. والحكمة تقول: لَيسَت العبرَة أن تُضيف سَنَوات إلى حَيَاتك، ولكن العبرَة أن تُضيق حَياةً إلى سَنَواتك!