صور نجاح بعد يأس
عبدالكريم البليخ
لنجاح كلمة حلوة لذيذة، يتسابق الناس على الفوز بها والالتفاف حولها. فكل واحد منا يريد أن يكون إنساناً ناجحاً في حياته، ونحن نتعلم ونقضي العديد من سنوات عمرنا في الدرس والتحصيل من أجل تحقيق هذه الأمنية. ولكن النجاح في الدراسة شيء، والنجاح في الحياة العملية شيء آخر.فقد ينجح المرء في كل مراحل حياته الدراسية، حتى إذا ما دخل معترك الحياة العملية، وجدناه لم يحقق من النجاح الذي يصبو إليه إلّا القدر اليسير، وربما لم يحقق منه شيئاً على الإطلاق!والحياة من حولنا مليئة بأمثال هؤلاء..الرجل الذي يقول: „لا إنّني لم أخلق لهذه الوظيفة!“، بعد أن يكون قد قضى سنوات طويلة من عمره يؤدي عمله هذا الذي لم يخلق له!أو الشاب الذي تخرّج لتوه في الجامعة وراح يبحث عن عمل، حتى إذا وجد وظيفة خالية سارع بالتقدم إليها، فإذا به يكتشف بعد أن يلتحق بها أنَّ طبيعة عمله الجديد لا تتلاءم مع ميوله واتجاهاته.أو المرأة التي تزوجت، ثم اكتشفت بعد أشهر قليلة من الزواج، مدى الخطأ الكبير الذي ارتكبته هي في حق نفسها، أو ارتكبه والداها في حقها باختيارها لهذا الرجل الذي أصبح زوجاً لها!!لماذا فشل كل هؤلاء؟ لماذا تعثرت أقدامهم وهم يلجون أبواب المدرسة الكبرى، مدرسة الحياة؟لقد شبّه الكاتب الأميركي الفيلسوف الكبير رالف ايمرسون، النجاح بعصفور صغير، لا يقوى على الطير وقد استقر في عشّه فوق جذع شجرة عالية يحيط بها سور كبير من كل اتجاه. أمّا نحن فقد وقفنا كلنا خارج هذا السور. اننا جميعاً نريد العصفور، ولكن كيف السبيل في الوصول إليه؟.البعض يقف وراء السور وينتظر خروج العصفور الصغير من عشّه، ليطير إليه ويقع بين يديه، ولكن العصفور لا يقوى على الطير، وقد يطول به الانتظار، ثم من يدري، فقد يقع بين يدي غيره من المنتظرين. أما البعض الآخر، فلم يقف، ولم ينتظر وإنما راح يطوف حول هذه الأسوار العالية، وراح يفكر في أسرع وأفضل وسيلة يتسلّق بها السور، لكي يصل إلى العصفور، قبل أن تسبقه إليه يد أخرى!.وهذا هو الفرق بين الرجل الفاشل، والرجل الناجح. الأول يقف متفرجاً، وكأنه يريد من النجاح أن يسعى إليه سعياً، والثاني يفكر ويبحث ويسعى، ويبذل في سبيل ذلك كل ما يملك من جهد لتحقيق النجاح الذي ينشده ويصبو إليه.إنَّ فرص النجاح متاحة لكل واحد منا، إذا ما عَرف كيف يكتشف نفسه، والبحث عن النفس ليس بمشكلة، كما يتصور البعض منا، ولو أننا استطعنا أن نخصص من وقتنا بضع ساعات يومياً، نخلو فيها إلى أنفسنا عما في داخل رؤوسنا من أفكار، لاستطعنا بمجهود بسيط أن نضع أقدامنا على بداية الطريق الذي يوصلنا إلى ما نتطلع إليه من نجاح في حياتنا.وكتبت جين أوستن الكاتبة الانكليزية الشهيرة تصف أجمل امرأة التقت بها في حياتها، قالت: كانت امرأة في التسعين من عمرها، قوية ممتلئة بالحياة، وجلست كريس تروي لي قصتها قالت: (كنتُ في السادسة عشرة من عمري، عندما تقدّم شاب وسيم إلى والدي يطلب يدي، ولم تنقض سوى أشهر معدودة حتى كنا نحتفل بزواجنا.. وفي اليوم التالي كنت أركب البحر بجوار زوجي، فقد كان يعمل قبطاناً، وطالت بنا الرحلة حتى استقر بنا المقام أخيراً في إحدى الجزر النائية في المحيط الهادي. وهناك علمت أنّني لن أعود الى بلدي أبداً، ولن يقدر لي أن أرى والدي وأخوتي مرةً أخرى. لقد قرر زوجي أن يترك البحر، ويشتري أرضاً يزرعها، وبيتاً صغيراً نعيش فيه وسط المزرعة.. واستبدّ بي يأس قاتل، وأنا أرى نفسي وحدي وسط هذه الجزيرة التي لا أعرفُ عنها شيئاً حتى لغة أهلها، ورحت ألعن اليوم الذي رضي فيه والداي بهذا الرجل زوجاً لي. وانطويت على نفسي، أغلقت باب بيتي ولم أبرحه أسابيع طويلة.. ولكنني سرعان ما بدأت أملّ حياة الوحدة هذه التي اخترتها لنفسي، ففتحت النوافذ والأبواب وخرجت، والتقيت بالناس، وبدأت أتعلم لغتهم، وزرعت الأرض وحصدتها، ولم تكد تمضي بضع سنوات حتى بدأنا نجني ثمار تعبنا، ونجح زوجي في حياته الجديدة، وأنجبت له ستة أولاد. وتعلمت أشياء كثيرة أخرى. تعلمت كيف أطلق النار وأصيب الذئاب الجائعة التي كانت تهاجم حيواناتنا، وتعلمت الطهي فكنت أعد طعام الغذاء لزوجي وأطفالي وثلاثين عاملاً يشتعلون معه في المزرعة).وتمضي الكاتبة الكبيرة في رواية قصتها، فتقول:وسألت كريس: „ألا تنوين العودة إلى بلادك. إلى انكلترا. فقالت وابتسامة حلوة تملأ وجهها: „تعالي معي“. وقادتني إلى بيت كبير يعيش فيه ستة رجال أشدّاء مع زوجاتهم وأبنائهم العشرين.. فقالت وهي تشير إليهم: (هؤلاء هم أبنائي وأحفادي!).ونظرت إلى الأحفاد فوجدتهم قد جاوزا سن الشباب، وقد تزوج غالبيتهم من أهل الجزيرة، وبقي البعض منهم بلا زواج!.قالت كريس: (هؤلاء هم أهلي.. وهذا هو بيتي، وتلك هي أرضي ووطني). كانت كريس امرأة لم تنل من التعليم إلّا النذر اليسير، ولكنها استطاعت أن تعلّم نفسها بنفسها، يدفعها في ذلك حبها لزوجها وأولادها، الذين كانت لهم أمّاً ومعلمة ومربية! لقد كانت امرأة عظيمة!.إنّ من أهم مقومات النجاح ألا يستسلم المرء لليأس أبداً. وتمكن وليام هيرشكيل 1871ــ 1992 الذي لقب بأبي الفلك الحديث، وأول من صنع أول وأعظم تلسكوب عرفه العالم، وقام بتنظيف وتلميع المرايا والعدسات الدقيقة. ولكنه كان يجد متعة في هذا العمل البسيط! وعندما بدأ محاولاته التي استغرقت شهوراً طويلة لإنتاج هذا المنظار المقرّب، وقف في النهاية يحصيها، فوجد أنه قام بأكثر من مائتي محاولة فاشلة، قبل أن يحقق هذا النصر الكبير. وعندما شرع مؤلف فرنسا الشهير جوستاف فلوبير في كتابة قصته الخالدة „مدام بوفاري“، لم يكن يتصور أنه سيقضي عشر سنوات كاملة من عمره، قبل أن تخرج هذه القصة إلى النور!.فليس المهم متى يجيء النجاح، ولكن المهم أن يجيء هذا النجاح ويتحقق، وليس هناك حدود لهذا النجاح، إذا اكتشف المرء قدرته واستخدم هذه القدرة، ولم يدع لليأس طريقاً يتسلل منه إلى قلبه.