شعب فيروز
عبد الحميد الصائح
حين وصـــــــلنا بيروت في نهاية الأسبــــــوع الأول من شهر تشرين الاول/أكتوبر عام 2010 للمشاركة في الورشة الإعلامية التي تقيمها منظمة اليونسكو حول السياسة الاعلامية لمكافحة العنف في الاعلام العراقي ، كانت بيروت على درجة عالية من التوتر ، توتر يسبقُ زيارة الرئيس الإيراني آنذاك أحمدي نجاد، انقسم حولها اللبنانيون انقسامهم المعتاد، لكنه هذه المرة كان ينذر بمواجهة غامضة بين المرحبين بالزيارة الذين فرشوا الشوارع المؤدية الى المطار بالورود وبين المعترضين الرافضين والمشككين بأهدافها الذين انتشروا في شوارع بيروت تحسبا لشيء ما غير طيب بالتاكيد، فأصبح وجودنا ونحن نسكن فندقا في شارع الحمرا في غير محله، البلد ملتهب، والسياسيون يتنابزون بالتصريحات ويستعرضون كل من جانبه ، دور إيران في دعم لبنان بالنسبة للمرحبين، والخطر الإيراني على لبنان والمنطقة بالنسبة للمعترضين على الزيارة .
لاحل وَسطا ، ولاوجودَ لرأيٍ لبناني جامِعْ ، ولا أمل بالخروج من مواجهةٍ، ربما تذهَبُ الى قعقعة السلاح حين تُقفلُ طرقُ الحوار بينَ الأطراف المتعادية .
لكنّ الحلّ كامنٌ في روحِ لبنان ، الوحدة والتاريخ والسلام والجمال وسيادة لبنان على الوجدان العربي والإنساني ، انها فيروز ، حضور لقامتها وسط بيروت قبيل عشيّة الزيارة المرتقبة، فكان الإعلان عن حفلة لفيروز في ظل هذا التوتر بمثابة صاعقة السلام على نطيحة الحرب التي تلوّح بسلاحها الوسخ مع كل ازمة ، اقترح الدكتور نبيل جاسم أن نلتحقَ مع بعض زميلاتنا بفيروز / وقطَعنا بطاقات الحفل التي تراوحت أسعارها بين 100 الى ثلاثمئة دولار ، في اقبال غير مسبوق لحضور فيروز وهي تغني للبنان والأرض والإنسان من صالة بلاتيا المكشوفة التي ضمت آلاف المتفرجين فضلا عن الشوارع التي امتلأت بالمتشفعين بصوتها عن بعد، يومها لم اتمالك مشاعري، وقلبي يخفق اخفاق العاشق الصغير ، حلّت فيروز كأنها اسطورة الهية بسحرها وصوتها القادم من السماء لتغني للحب والسلام والجمال والفرح والطفولة ، فتضعنا في حيرة من أمرنا بين الإصغاء التام والتصفيق والقنوط والتأمل والبكاء على حياتنا التي مضت، وتذكّر كلّ أثرٍ لعاطفةٍ أو حلم مهما كانَ صغيراً فيها.
هدأتْ الأجواء هناك وكأنّ صوت فيروز في تلك الليلة حذّر لبنان من السهر مع المسلحين ، ومن احتساء الكؤوس في معسكرات الحرب.
فبيروت فوق كلّ ميولهم ومؤامراتهم وشراهتهم وزمان السياسة الذي عادةً ماتدوسُه هوادجُ الورد والمستقبل وهي تحمل فيروز هالة فوق الرؤوس.
اللبنانيون قبل العرب وقبل الخليقة كلها يعرفون قَدْر المعجزة التي توحدّ بلادهم وشعبهم ، ولهذا يعرف الرئيس الفرنسي ماكرون بفطنته وذكاء المؤسسات التي تدير فرنسا ، بأنّك اذا زرتَ أي مسؤول في لبنان حتى رئيسها، فانّك انما تزورُ حارة مسلحة فيها ، الا اذا صافحت فيروز وأكرمتها فانك فقط في هذه الحال قد زرت شعب لبنان كله وصافحــــته فرداً فرداً ، لتستدرجَ حقيقة الحياة والسلام في روح هذا الشعب العظيم.