روسيا التاريخ وإستشراف القرن الواحد والعشرين
روسيا التاريخ وإستشراف القرن الواحد والعشرين – محمد مظفر الادهمي
يقول د جورج فردمان في كتابه الموسوم (المائة عام القادمة . استشراف للقرن الواحد والعشرين ، الذي تم تعريبه عام 2019 ان النقطة الاضعف لروسيا هي حدودها . فقد كانت في عهد الاتحاد السوفيتي تملك حدودا طبيعية آمنة ، فالبحر الاسود يؤدي الى منطقة القوقاز التي تفصل روسيا عن كل من تركيا وايران ، بينما كان بحر قزوين يمثل مساحة مائية كبيرة تفصلها عن ايران ،وصحراء كاراكوم في جنوب تركمستان على طول الحدود الافغانية التي تنتهي عند تخوم منطقة جبال الهملايا .وعموما فأن الامبراطورية الروسية ، بغض النظر عن الشكل الذي تتخذه ، هي آمنة نسبيا باستثناء حدودها مع اوروبا ،حيث تواجه اشد الاخطار المتمثلة بالجغرافية والدول الاوربية القوية . ويشهد التاريخ ذلك منذ عهد القيصر بطرس الاكبر في اواخر القرن السابع عشر عندما وجد ان حدوده مع اوروبا تمثل تهديداً لوجود روسيا الارثدوكسية الناشئة ، فالسويد دولة قوية تسيطر على بحر البلطيق ،وبولندا الكاثوليكية تقف حاجزا قويا في وجه روسيا ، والدولة العثمانية تسيطر على مادخل القرم وتغلق الطريق الى البحر الاسود . فوجد بطرس انه لا يمكنه تحقيق هدفه في النهوض بروسيا وحمايتها من اعدائها الا بسيطرته على البحر الاسود وبحر البلطيق ، فاصبح الوصول الى المياه الدافئة هدفا رئيسا لروسيا منذ ان وجدت كدولة . لذلك هاجم بطرس الاكبر قلعة آزوف العثمانية الحصينة على بحر آزوف المرتبط بالبحر الاسود، بعد سنة واحدة فقط من استلامه الحكم ، مستغلا انشغال الدولة العثمانية في حربها مع الامبراطورية النمساوية ، ثم نجح باقناع العثمانيين الاقوياء في عقد الصلح معهم عام 1700 م فتركوا حصن آزوف للروس ، فاصبح لهم موطيء قدم في بحر آزوف يقودهم الى البحر الاسود للوصول الى البحر المتوسط واروبا .كان الهدف الثاني لبطرس الاكبر هو بحر البلطيق الذي تسيطر على مياهه وشواطئه دولة السويد القوية ، فخاض معها عدة حروب .وكانت آخرها عندما شن ملك السويد هجوما كاسحا على روسيا ، فاتبع بطرس خطة الانسحاب امام زحف الجيش السويدي الذي لم يتمكن من الصمود امام قساوة شتاء روسيا ،فاندحرت السويد وتراجعت واصبحت دولة صغيرة ، بينما سيطرت روسيا على سواحل البلطيق المجاورة لها ولفلندة عام 1718م . كما سيطر بطرس على سواحل بحر قزوين عام 1724 مستغلا الغزو الافغاني لبلاد فارس.مياه دافئةان هذه الستراتيجية الروسية في الوصول الى المياه الدافئة بشكل آمن في البحرالاسود وبحر البلطيق ، والتي ابتدأها بطرس الاكبرمنذ مئات السنين تمثل جذورا تاريخية لطموحات بوتن للنهوض بروسيا من جديد ، بعد ان فقدت أمنها مع انهيار الاتحاد السوفيتي ، فبعد ان كانت مدينة سانت بطرس بيرغ تبعد مسافة الف ميل عن قوات حلف الناتو عام 1989 قد اصبحت الان لا تبعد عن تلك القوات الا مسافة اقل من مائة ميل فقط ، واذا كانت موسكو تبعد الفين ومائة ميل ،قد اصبحت الان تبعد مائتي ميل . اما في الجنوب ،وبعد حصول اوكرانيا على استقلالها ، فان سيطرة الروس على البحر الاسود اصبحت هشة ،وارغمت على التراجع الى اقصى شمال منطقة القوقاز، اما سيطرت الروس على منطقة الهملايا فقد ولت وتبددت ، ولو كان هناك جيش اجنبي له مصلحة في غزو روسيا ،لكان الاتحاد الروسي في وضع لا يحسد عليه .ويضيف فردمان ان هذا يحتم على روسيا استعادة حدودها والمحافظة عليها ، خصوصا حدود الاتحاد السوفيتي . ومع ان روسيا الان غنية جداً بالمقارنة بماضيها ، ولكنها جغرافياً غير آمنة، ولذلك فان عليها في الحال استخدام جزء من ثروتها لانشاء قوة عسكرية مناسبة لحماية نفسها من بقية دول العالم ، وخصوصا اوروبا التي سبق وان غزت روسيا في عهود ملك السويد ونابليون وهتلر، والتي انقذها منها ثلوج الشتاء حليف روسيا الصامد . كما ان على روسيا ايجاد مناطق عازلة عميقة على امتداد السهوب الاوربية في الشمال ، في الوقت الذي تعمل على تقسيم جيرانها والسيطرة على مقدراتهم ،لخلق توازن اقليمي جديد في اوروبا ،فروسيا لا يمكن ان تتسامح او تتقبل وجود حدود متشابكة من دون ان تكون هناك مناطق عازلة تفصل تلك الحدود ، خصوصا اذا كان جيرانها الاوربيون متحدين ضدها ،ولهذا ستبدو افعال روسيا عدوانية لكنها في الواقع دفاعية محضة .ان المعركة التي يخضوها اليوم الرئيس الروسي بوتن تؤكد ما ذهب اليه فريدمان من تحليل للواقع الروسي ومستقبله في القرن الواحد والعشرين ، فهل سيحقق بوتن بغزوه اوكرانيا ما تمكن بطرس الاكبر من تحقيقة في القرن الثامن عشر ؟