“دقت ساعة الامتحان الحاسم. والتحديات لا ترحم”
الكاتب : رفيق خوري
في كتاب “الدولة اليهودية” كتب تيودور هرتزل أنه إذا ساعدت بريطانيا في قيام هذه الدولة، فإنها ستكون “القلعة المتقدمة لأوروبا في مواجهة آسيا البربرية”.
كان هرتزل هو المنظّر الحالم الذي قال “ما تفكر فيه ليس حلماً”. أمّا المؤسس البراغماتي، فإنه ديفيد بن غوريون زعيم حزب “مباي” الوسطي المتحالف مع حزب “مابام” اليساري، وهما أساس حزب “العمل” الذي أكمل حكم يسار الوسط لإسرائيل حتى عام 1977. وأمّا “التحريفي” فإنه زئيف جابوتنسكي الذي بقي تياره هامشياً مصراً على دولة من البحر إلى الصحراء، وكان سكرتيره الشخصي بن تسيون والد بنيامين نتنياهو، وأبرز أنصاره مناحيم بيغن زعيم حزب “حيروت” الذي أصبح تكتل “الليكود”.
اليوم، صار التيار التحريفي الهامشي هو التيار الأساسي. وربما كانت الفوارق بينهما مجرد خلافات سياسية ومقاربات مختلفة للتعبير عن موقف واحد في العمق. فلا حرب خيضت ضد الفلسطينيين والعرب إلا بالاتفاق بينهما. ولا تسوية منفردة جرى التوصل إليها إلا بالتفاهم بينهما.
لكن تحولات كثيرة حدثت داخل إسرائيل. فليس أمراً قليل الدلالات أن يتحكم مصير رجل واحد بإسرائيل التي تتحكم بمصير شعب اغتصبت أرضه. لا رجل له إنجازات بل رئيس حكومة يواجه محاكمة بثلاث تهم من العيار الثقيل: “الرشوة، الاحتيال، وخيانة الأمانة”. رجل أخذ الإسرائيليين إلى الانتخابات ثلاث مرات في سنة هرباً من دخول السجن إن لم يكن رئيساً للحكومة. وهي انتخابات قال رؤوبين رفلين رئيس الدولة وهو من الليكود إنه “يشعر بالحزن والخجل من انتخابات جرت في أجواء رهيبة تدهورنا خلالها إلى حد القذارة”. والمسألة ليست إن كان نتنياهو سيتمكن من تأليف حكومة أو لا، بل إن الناخبين تجاوزوا كل فضائحه وأعطوه في الانتخابات الأخيرة مقاعد إضافية.
ذلك أن ما أكدته الانتخابات هو ثلاثة أنواع من التحولات.
التحول الأول، هو أن الدولة التي فاخر مؤسسوها من الأشكناز بأنها جزء من أوروبا في الشرق، صارت دولة شرقية كاملة الأوصاف: حكم الأشخاص والتعلق بهم، وبينهم نتنياهو الذي تجاوز المدة التي حكم فيها بن غوريون. تزايد العصبيات القبلية. إبقاء الفلسطينيين العرب خارج اللعبة السياسية، ولو كانوا مليون ناخب وصار نوابهم الكتلة الثالثة في الكنسيت. وزيادة التمييز ضد السفارديم، وخصوصاً الذين جاؤوا من اليمن وأثيوبيا وحتى ضد الأشكناز الروس.
التحول الثاني، هو موت اليسار الذي أسس وحكم إسرائيل وصارت بقاياه في “العمل” و”غيشر” و”ميرتِس” على الهامش. فالسباق الانتخابي هو بين تنويعات في اليمين. يمين وسط، يمين متشدد، يمين متشدد جداً. أليس من المفارقات المضحكات توصيف حزب “كحول لفان” الذي يقوده رئيس أركان سابق هو الجنرال بيني غانتس وفيه رئيسا أركان سابقان و11 جنرالاً بأنه “يسار الوسط”. أليس ما لعب عليه نتنياهو هو أن هؤلاء يقبلون تسوية مع الفلسطينيين، وإنه هو يريد حكومة يمين تمنع قيام دولة فلسطينية؟
التحول الثالث، هو تنامي نفوذ التيارات الدينية وأحزابها. ليس أحزاب الحريديم فحسب بل أحزاب التيارات الدينية “الليبرالية” أيضاً. عام 1948 كان هناك 400 من الحريديم للتجنيد أعفاهم بن غوريون فصاروا حالياً 50 ألفاً. اليوم يشكل الحريديم 10في المئة من سكان إسرائيل، وفي عام 2065 سيصبحون ثلث السكان، بحسب شمويل روزنز المحرر السياسي في “جويش جورنال”.
وليس أمام الفلسطينيين والعرب سوى مواجهة الواقع. فما كان مغطى بالألعاب الديبلوماسية صار مكشوفاً تماماً: لا دولة فلسطينية، ولا شيء اسمه “حل الدولتين” إلا على الورق. العرب يلومون أنفسهم على رفض قرار التقسيم الذي يطالبون اليوم بأقل من ربعه. لكن القبول لم يكن ضماناً لبقاء الدولة الفلسطينية. ففي كتاب “دولة بأي ثمن: حياة ديفيد بن غوريون” يروي المؤرخ الإسرائيلي توم سغيف أن بن غوريون قال لليهود الذين يرفضون التقسيم “حقيقة امتلاك دولة أهم من حدودها. الحدود ليست دائمة”. وقبل ذلك قال: “لا حل للمشكلة بين اليهود والعرب، هناك هاوية لا شيء يمكن أن يملأها: نحن نريد فلسطين لنا كأمة وهم يريدونها كأمة”. والباقي مناورات لإخفاء الموقف الحقيقي، من أيام بن غوريون إلى اليوم. ولم تكن الاتفاقات المنفردة سوى جزء من خطة لمنع قيام دولة فلسطينية.
والسؤال التقليدي هو: ما العمل؟ ليس جديداً بالطبع طرح الدولة الواحدة “الديمقراطية لكل مواطنيها”. وهو ما يرفضه الإسرائيليون بوضوح لأنهم يريدون “يهودية” الدولة. حتى الطبعة المخففة التي عرضها مايكل دوران، وهي “دولة واحدة ولكن بترتيب الستاتيكو الحالي لا حقوق كاملة للفلسطينيين بل حكم ذاتي ضمن دولة واحدة”، فإنه غير مقبول إسرائيلياً ومرفوض فلسطينياً بالطبع. فهل يجمع الفلسطينيون بين العودة إلى المقاومة وبين المطالبة بالدولة الواحدة بما يكشف طابع التمييز العنصري ويقود إلى نوع من الضغط الدولي كما حدث في جنوب أفريقيا؟
دقت ساعة الامتحان الحاسم. والتحديات لا ترحم.